في الخامس من أبريل عام 1946، كانت السفينة الحربية الأميركية ميسوري – وهي سفينة حربية كبيرة يرد ذكرها كموقع نهاية الحرب العالمية الثانية – راسية في إسطنبول. كانت السفينة الأميركية قد أبحرت من نيويورك في مهمة خاصة ألا وهي إعادة رفات السفير التركي محمد منير إرتجون، عميد السلك الدبلوماسي في واشنطن.
سيتم تذكر زيارة السفينة ميسوري كنقطة تحول تمثل بداية لنظام عالمي جديد، مما يؤكد على الأهمية التي توليها الولايات المتحدة لتركيا. بعد أقل من ست سنوات، أصبحت تركيا عضواً في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبعد فترة قصيرة تم إبرام معاهدة ثنائية أعطت الولايات المتحدة الحق في إنشاء قواعد والاحتفاظ بأفراد عسكريين على الأراضي التركية.
وجاء يوم الثاني عشر من يوليو 2019 ليحمل نفس أهمية زيارة السفينة الحربية الأميركية قبل 73 عاماً.
عندما وصلت أول شحنات أنظمة الدفاع الصاروخي أرض – جو الروسية المتطورة إس-400 إلى قاعدة مورتيد الجوية في أنقرة، يتعلق الإحساس بالتحول التاريخي في الهواء.
إن إصرار تركيا على الحصول على بطاريات الصواريخ من خصم لحلف الناتو، في تحد للمبادئ الأساسية المتمثلة في القدرة على التشغيل المتبادل للحلف، على الرغم من تهديدات واشنطن الصريحة بشأن فرض عقوبات قاسية، يطرح حتماً سؤالاً بشأن ما إذا كانت أنقرة عازمة على الابتعاد عن فلك الحلف للأبد.
المقارنات بين السفينة الحربية الأميركية ميسوري وصواريخ إس-400 ليست بعيدة الاحتمال. فالتاريخ مليء بهذه الأحداث. فقد دفعت التهديدات المتصورة من روسيا إبان حقبة جوزيف ستالين تركيا للاقتراب من الغرب في ذلك الحين. الآن، بطريقة أو بأخرى، يحدث العكس.
لا يستطيع أحد أن يقول إن عملية صنع القرار التي أدت إلى العناد التركي للمضي قدماً في شراء أنظمة الدفاع الصاروخي الروسية كانت تستند إلى ردود الفعل.
يبدو السبب الأساسي واضحاً: منذ انهيار حلف وارسو ونهاية الحرب الباردة، تتحمل تركيا جزءاً كبيراً من مسؤولية الابتعاد عن حلف الناتو. على مدى ثلاثة عقود، كان سخطها يختمر في ظل عجزها عن التحول إلى دولة ديمقراطية، وقد فشلت في أن تتطور إلى دولة يمكن التنبؤ بها وخاضعة للمساءلة وقائمة على الحقوق.
أصرت تركيا على حجة استمرت على مدى سنوات بأنها حالة خاصة تطلب معاملة خاصة، ورفضت معالجة قضيتها النازفة المتمثلة في الأكراد. وإلى جانب المحاولات الفاشلة للوفاء بمعايير كوبنهاغن وقصر نظر قيادة الاتحاد الأوروبي، فقد نظرت إلى الغرب على أنه يمارس التمييز.
عندما أثبت حزب العدالة والتنمية الحاكم وزعيمه، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عدم قدرتهما على توحيد المجتمع تحت الإدارة السياسية الخيرة، أصبحت البلاد سفينة تسير بلا هدف.
وعندما تم تحطيم الدفة بسبب محاولة انقلاب، تحولت تركيا في عام 2016 إلى دولة، إن لم تكن تحولت إلى دولة مارقة، تبحث عن ميناء يمثل الاستبداد فيه القاعدة. هذا هو المكان الذي يرى فيه الحكام في أنقرة مصالح البلاد ومصالحهم الخاصة.
إن الخلاف الذي نشب بين واشنطن وأنقرة له خلفية تعزز فكرة نقطة الانهيار التاريخي. فمنذ عام 1989، كان الجنرالات الأتراك الأقوياء في ذلك الحين يشعرون بخيبة أمل خفية منذ فترة طويلة إزاء الولايات المتحدة وعبروا عن ذلك. لقد طوروا نظريات تفيد بأن الأميركيين هم الذين دعموا الإسلاميين الأتراك تدريجياً للوصول إلى قلب الساحة السياسية في تركيا.
وخلال حالة الوهم المظلمة التي كانوا يعيشونها، ظلوا في حالة إنكار لفكرة أن الفساد العميق الذي أصاب الطبقة السياسية والبيروقراطية التركية كان السبب وراء سعي الناخبين للبدائل. عندما صعد أردوغان وحزبه إلى السلطة، في تحالف مع حركة فتح الله غولن، تعرضوا للانتقام من خلال المحاكمات والإنزال التدريجي من قلب الساحة السياسي. لم يوجه الجيش، الذي كان لمعظم قوامه دائماً سمات تشكك في الأميركيين، اللوم إلى الإسلاميين بسبب سوء المعاملة التي تعرضوا لها بل للأميركيين.
والمفارقة أنه بعد فترة من الوقت، جاء أردوغان – الذي كان خصماً ذات يوم للضباط – ليصدق نفس الشيء. عندما اختلف مع غولن، واجه تحدياً تلو الآخر، وكانت الذروة محاولة الانقلاب الغامضة في عام 2016. ربما كان أردوغان يلقي باللوم على أنصار غولن في هذا العمل، لكنه يعتقد أن الأميركيين يسعون للإطاحة به من السلطة.
ويمثل انعدام الثقة العميق – إن لم يكن العداء – تجاه الولايات المتحدة القوة التي جمعت بين ما يسمى بالجنرالات الأوروآسيويين وأردوغان، منذ عامي 2014 و2015 تقريباً. وعلى الرغم من أن هذا التحالف الذي يدعم النظام الرئاسي قد يكون قصير الأجل، فإن نتاجه يتمثل في تحدي حلف الناتو والتقارب مع روسيا.
تركيا عازمة على مواجهة العواقب المتوقعة الآن – فرض عقوبات أميركية والمزيد من التهميش داخل حلف الناتو – لكن تعقيدات أهدافها ستبقى متمثلة في أن أردوغان وحلفاءه الأوروآسيويين في الإدارة لديهما وجهات نظر مختلفة بشأن سوريا والجهاديين والإخوان المسلمين.
لا بد أن نقول إنه بوصول مكونات منظومة إس-400 الصاروخية الروسية إلى الأراضي التركية، تصاعدت المغامرة في أنقرة بشكل كبير. تواجه تركيا أزمة متفاقمة من شأنها أن تحطم قاعدتها السياسية الداخلية. دعونا نرى ما يمكن أن تفعله المعارضة.