أثار المرسوم 16 الخاص بتنظيم عمل وزارة الأوقاف الكثير من النقاشات في أوساط المجتمع السوري، وظهر الانقسام جلياً بين تيارَين متضادَين، الأول يدافع عن الأوقاف وليس المرسوم باعتبار أن أي مسّ بهيبة المؤسسة الدينية أمراً محرّماً، والثاني، اعتمد على معارضة كل ما هو ديني في لحظة مفصلية وانتقالية من تاريخ سورية، بعد الحرب التي ارتكزت في أحد أوجهها على الشعارات الدينية الإقصائية، فأيٌّ من الفريقين محق؟ وهل الحل بالتمترس خلف واحدٍ منهما؟
ما سبق يتعلق بالانقسام الذي ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي التي تشكّل منبراً حراً للجميع، حتى لو أن البعض يأخذ عليها عدم توافر المعايير المطلوبة في الأشخاص صاحبة الحق في إبداء الرأي، إلا أنها استطاعت عبر الضغط الذي مارسته تحويل القضية إلى قضية رأي عام، وهذا ما دفع الحكومة ممثلةً بوزارتي الأوقاف والإعلام إلى التحرك المتأخر لتبرير الموقف، وشنّ حملة مضادة على مواقع التواصل ذاتها عبر سلسلةٍ من التوضيحات التي نُشرت والتي تدعو الجميع إلى التروي قبل إصدار أي حكم على المرسوم، وهو ما كان في لب لقاء بثّ على قناة الإخبارية السورية مع وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيّد مساء أمس الأول، حيث تم إيصال رسالة مفادها أن المرسوم قابل للتعديل، وأن ما يُشاع حول بعض فقراته ليس له أساس من الصحة، وهذا أمرٌ وصل لمن يريد أن يرى في اللقاء فائدةً مرجوّة، ولا ينطلق من موقفٍ مسبق. إضافة إلى أن المرسوم الجديد قد أعاد مرةً أخرى تحديد معايير خاصة بالخطباء في المساجد ومن يريد أن يعتلي منبراً شرعياً رسمياً، وهو مشابه لما كان قائماً منذ 140 عاماً في الشكل، حيث كانت تفرض شروط صارمة على كل من يريد أن يعتلي منبراً أو ينضم إلى صفوف العلماء والمدرسين.
تمرّ البلاد بمرحلةٍ انتقالية، والمؤسسة الدينية الرسمية منوط بها الدور الأكبر في تنظيم عمل الجسم الديني الضخم في سورية، وإدارة شؤون المجتمع الدينية، وأمور الوقف، ذلك الوقف الذي يشكّل ويغطي مساحاتٍ واسعة من كبريات المدن السورية، وهذا أمر لا يمكن إنكاره، ومن غير الممكن الدعوة إلى الضرب فيه عرض الحائط، وعليه وفي سياق مرحلةٍ انتقالية فإن الدولة السورية بحاجة إلى تفعيل عمل مؤسساتها، وإعادة تحديث القوانين القائمة منذ «الاحتلالين التركي والفرنسي» وفق التعبير الذي استخدمه وزير الأوقاف السوري. لكن ماذا عن باقي القوانين الموجودة منذ زمن الاحتلالين آنفي الذكر والتي لم تعد تواكب العصر، ربما ضغط المؤسسة الدينية وتنظيمها ومحورية دورها هو الذي يقف وراء عملية تحديث القوانين التي تحدّث عنها الوزير.
المجتمع السوري هو مجتمع محافظ في كليّته وهذا الأمر ليس حكراً على مكوّن معيّن، بل يمكن لحظ التمسك بالإرث الثقافي والديني لكل مكونات الشعب السوري، وردّة المجتمع على مختلف مستوياته، لكن الخوف يبقى حاضراً في أوساط بعض المكونات وهذا ما يدفعها إلى تبني موقف يبدو بالظاهر موقفاً علمانياً يستند إلى قاعدة «فصل الدين عن الدولة» لكنه لا يمت له بصلة إن أردنا مقاربة الواقع بشكل حقيقي، بل الدافع هو الخوف، الذي تعزّز بعد الحرب الكونية على سورية التي شكّلت الشعارات الإسلاموية أحد أهم روافعها وعناوينها.
إن عملية فصل الدين عن الدولة في سورية ليست بالعملية السهلة وهي لا تبدأ من مهاجمة كتلة متماسكة أكثر من غيرها، وهنا المقصود المؤسسة الدينية، المستندة إلى مجتمع محافظ بالشكل في أغلبيته بنسبة تتجاوز الـ90 بالمئة منه، بل إن العملية تبدأ من نزوع الدولة لتوفير منابر موازية رسمية لمن يرفض هذا الفكر، وتفعيل المنصات الحزبية لكامل الأحزاب، وحتى المنظّمات النقابية، والسير في دولة المواطنة الحقّة، وعدم ترك المعترضين على أي خطوة على منابر التواصل الاجتماعي التي لا يملكون سواها، وهنا لا يجوز مهاجمة من كتب على هذه الوسائل بقليل من الموضوعية والتشكيك به، فلو توافر له منبر لما تحوّل كلياً إلى هذه الوسائل.
أما لمن اعترض على المرسوم فإن عملية «فصل الدين عن الدولة» تبدأ من سلوكنا وتربيتنا وانتمائنا وطريقة تعاطينا مع الإرث الديني الذي نحمله قبل أي شيء آخر، ومحاولة التعاطي بواقعية مع شكل المجتمع السوري الحالي، أما مسؤولية الدولة فهي المواءمة بين طرَفين كلاهما لم يُجرما بحق سورية، وليسا أدوات بيد الآخر العدو أياً يكن، لأن هذا الافتراض بحدّ ذاته هو الخطر الأكبر الذي يجعل في النهاية أي موقف مضاد قائماً على التعصّب لأن الاتهام المسبق جاهز.
إن عملية التحوّل الكامل نحو دولة المواطنة الحقة، والدولة المدنية، في أقل تقدير، هي عمليةٌ طويلة ومعقدة، والطرف الأكثر تنظيماً في لحظةٍ ما هو الذي يستطيع تحصيل مكاسب تنظيمية وإدارية وقانونية، وهذا ما يجب أن ندركه ونعمل من أجله، واضعين في الحساب أن الدولة السورية بشكلها الحالي مدركة لكل المخاطر، وهي التي تقود الحرب على التطرف الجهادي منذ سبعينيات القرن الماضي.
الوطن السورية – عامر نعيم الياس
Discussion about this post