في هذا الزمن الأكثر رداءة من أي زمن آخر بتنا نصبح ونمسي على طلات أميركية «بهية» تصدر التعليمات والتوجيهات والأوامر والرغبات باستعلاء وعنجهية إلى شعوب ذات ماضٍ تليد، وعراقة حضارية مجيدة، وجدت قبل أن توجد أميركا كدولة بآلاف السنين، سبق لها أن قدمت للعالم نماذج رفيعة لحضارة إنسانية حمّالة لقيم أخلاقية سامية مما لا تعرفه العصبة السياسية العنصرية في الإدارة الأميركية على مدى تاريخها الحافل بالأخطاء والخطايا والويلات.
حتى عهد قريب كان يطل علينا سفير الولايات المتحدة السابق لدى الأمم المتحدة المدعو جون بولتون من فوق المنبر الدولي، المخطوف أميركياً وإسرائيلياً عن طريق الآيباك والمحافظين الصهاينة الجدد، عند كل قضية تخص العرب والمسلمين لكي يكيل الاتهامات الكاذبة جزافاً للخارجين على رغبات الدولة التي تحسب نفسها سيدة العالم بلا منازع. وما أن يمضي هذا أو مثيله حتى يطل علينا غيره حاملاً السمات ذاتها، وكأنهم جميعاً ينتمون إلى مدرسة واحدة، سمتها التعالي والغطرسة والاستكبار من جهة، والاستهتار بالآخرين من جهة ثانية.
لنذكر من بين هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: جون نيغروبونتي، مادلين أولبرايت، جورج بوش الأب، ثم الابن، دونالد رامسفيلد، ديك تشيني، جيفري فيلدمان، بول بريمر، سوزان رايس، ابنة خالتها كونداليزا رايس، هيلاري كلينتون.
وفي زمننا الراهن: نيكي كيلي، دونالد ترامب، مايك بومبيو، مايك بنس، جو بايدن، وليس في قاموس هؤلاء وهم يخاطبون العالم من شرفة بيتهم «الأبيض» أو من فوق هذا المنبر الدولي أو ذاك، سوى كلمات تنضح بالتعالي والازدراء والفجاجة من قبيل: يجب عليكم، اصنعوا كذا، امتنعوا عن كذا، لا يعجبنا هذا النظام، لا نسمح لتلك الدولة، نحذر، ننبه، نعاقب، نضرب!
وهكذا يا سادة، فكأن أميركا سيد حاكم بأمره وبقية شعوب العالم، عدا إسرائيل طبعاً، مجرد رعايا وأتباع، وكأنها تصنع للشعوب مصائرها ومستقبلها فهي الأدرى منهم بمصالحهم!
يجهل هؤلاء الجهلة بتاريخ الأمم والشعوب أن العربي عمر بن الخطاب هو أول من قال للعالم وقبل اكتشاف أميركا بأكثر من ألف عام: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، قالها لوالي مصر عمرو بن العاص، يوم اشتكى مواطن مصري قبطي ابن عمرو، لادعائه وهو يضربه بأنه «ابن الأكرمين»، فأمر الخليفة عمر بن الخطاب، القبطي بأن يضرب «ابن الأكرمين» هذا.
القيم الإنسانية والأخلاقية التي يزعمون أنهم «وحدهم» القيمون عليها والمتفانون في خدمتها، هم أول الخارجين عليها والمتنكرين لها.
الأمثلة كثيرة، فالرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش وصف العرب بالعنصريين والإرهابيين، والإسلام بالفاشستي، ولهذا فهو أعلن عليهم «حرباً صليبية». بل ذهب به هوسه حدّ التصور بأنه فوق سائر البشر عندما زعم بأن «الله يأتيه في المنام، في مزرعته بتكساس، ليخاطبه من دون سائر الخلق، يطلب إليه محاربة «الملحدين – المسلمين» لأنهم أعداء للحرية والديمقراطية»!
أما بولتون فيقول، بجلافة منقطعة النظير، عنصرية الرؤية، رداً على صحفي أميركي: ليس من الأخلاق الحديث عن دماء أطفالهم، ويعني العرب، لمقارنتها مع دماء أطفال إسرائيل!
وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس ما من أحد لا يذكر موقفها إبان العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان عام 2006 وهي تطلب إلى إسرائيل بمواصلة عدوانها حتى النهاية، بل إنها عملت على تزويد الجيش الإسرائيلي بملايين القنابل العنقودية التي ما زالت مفاعيلها قائمة تفتك يومياً بالضحايا من أطفال ومزارعين ورعاة أغنام. كما لا ينبغي لنا أن ننسى إعلانها يومئذ أمام عدسات التصوير العالمية بما فيها الـ«سي إن إن» الأميركية بأن ما يراق من دماء في لبنان هو في مصلحة المنطقة، من أجل ولادة مشروع شرق أوسط جديد، لابد أن تصحبه «آلام المخاض»! ثم تابعت وصيتها لإسرائيل بضرورة استمرار حربها فأوان وقف إطلاق النار لم يحن بعد! وكأن نهر الدم الزاكي للشهداء لم يشبع نهم وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون، التي قد نراها بعد شهور ترشح نفسها مرة أخرى لرئاسة الولايات المتحدة حتى بعد أن بلغت من العمر أرذله.
الأمثلة على العنجهية الأميركية أكثر من أن تحصى، وإن كان قربها عهداً صورة السناتور جون ماكين الذي نصب نفسه وكونجرسه وصياً على العالم، فأخذ يحرّض ويهدد ويندد ويتوعد بحجة «الكيميائي» ودفاعه عن أطفالنا في سورية. أطفال سورية نفسها وأطفال فلسطين ولبنان والعراق واليمن الذين يقتلهم السلاح الأميركي ذاته في كل يوم، فلم يسمع حضرته بأمرهم فيما يبدو!
أما الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي استبشر بعضهم خيراً بمجيئه رئيساً للولايات المتحدة، بعد حقبة جورج بوش، فإذا به ينطوي على المواصفات ذاتها، ولكن برقة ثعلب مخادع، فيشرع في رسم خطوط لخريطة العالم، وكأنه سيده الأوحد، فهذه خطوط خضراء، وهذه حمراء، وهناك زرقاء! أما الخضراء فلإسرائيل لتفعل بالعرب والمسلمين ما تشاء، كأن تملأ السجون بالفلسطينيين، وتهوّد القدس، وتهدم الأقصى، وتصادر الأراضي، بل تقتل من تشاء دونما حساب أو عقاب، أما الحمراء فهي لنا ولكل من يناصب إسرائيل عداء أو اعتراضاً أو مطالبة بحقوق.
الرئيس الحالي دونالد ترامب فحدث عن كرمه المنقطع النظير حيال عصابات بني صهيون وعلى رأسهم صديقه الحميم رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، ففي غضون شهور قليلة أغدق كرمه هذا عليهم بمنحهم القدس عاصمة «لدولتهم»، ثم نقل سفارة بلاده إليها، ثم زار الكنيست مرتدياً القلنسوة اليهودية التقليدية في طريقه إلى حائط البراق، يسمونه المبكى عندهم، ثم أضاف مزيداً من «الهدايا» فأقرهم على امتلاك المحتل من الجولان، ثم أقرهم على ضم المستوطنات والأراضي المقامة عليها وحولها إلى كيانهم الغاصب أصلاً، ما أورث أميركا كراهية العالم شعوباً ودولاً.
وعن سياسة المكاييل المتعددة التي تنتهجها الإدارات الأميركية المتعاقبة، والتي تميز فيها بين حالة دولية وأخرى، وفق مقاييسها المنحازة والجائرة، فقد أفقدتها المصداقية والاحترام. ولابأس من الإشارة إلى أن سياستها المنحازة للكيان الصهيوني، على حساب الفلسطينيين خاصة، والعرب عامة هي التي أنزلتها عن مكانتها الدولية، وأفقدتها نهائياً ما بقي من هيبتها واحترامها.
الحديث عن المسائل الأخرى، كسياسة العقوبات الاقتصادية، وسياسة تجويع الشعوب، وسياسة الابتزاز، ونهب الثروات، على صعيد العالم كله، التي ينهجها ترامب، والمجموعة الصهيونية المحيطة به، التي تحاول فرض ما سمي «بصفقة القرن» والتي تسعى لإلغاء الشعب الفلسطيني من الوجود، لكي تحلَّ مكانه وعلى أرضه وجوداً غاصباً طارئاً إرهابياً ليس في حقيقته غير مجموعة من القراصنة القتلة المجردين من كل خلق إنساني، فلهذا كله حديث آخر
د. يوسف جاد الحق – الوطن السورية