يمكن لتفاصيل اجتماع آلاسكا بين الولايات المتحدة والصين أن يكون مادة درسية ممتعة لطلاب العلوم السياسية لكثرة ما يحمل من الدلالات والتفاصيل والفروقات الجوهرية بين ثقافتين تتنافسان اليوم على قيادة العالم. وإذا ما بدأنا بالمؤشرات الصادرة عن الطرفين قبل بدء الاجتماعات نلحظ الفروقات الثقافية العميقة؛ ففي الوقت الذي عبّر فيه الجانب الصيني عن أمله بنبرة ودية بأن يكون هذا اللقاء فاتحة للقاءات عدة، على الأقل ثلاثة، تمتدّ على مدى يومي الخميس والجمعة كبداية محتملة لحوار إستراتيجي طويل المدى، فإن الجانب الأميركي وصف الاجتماع بنبرة متعالية كاجتماع وحيد ومحاولة وحيدة للتعبير عن الإحباطات الأميركية من بكين ولتلمّس مواقف القادة الصينيين حول عدة نقاط خلافية بين الطرفين، ومن ناحية أخرى فإن وزير الخارجية الأميركي بلينكن وصل إلى آلاسكا بعد أن قام بزيارة لحلفاء الولايات المتحدة في كورية الجنوبية واليابان؛ حيث كانت العلاقات مع الصين موضوعه الأساس، وفي هذا استعراض أميركي وتذكير للصين بأوراق القوة الأميركية القريبة من الصين قبل بدء الاجتماع.
كلّ هذا ترافق مع تصريحات أميركية عدائية يظهر فيها طابع الاستكبار الأميركي المعهود وفق صورة «الكاوبوي» قبل وبعد الاجتماع بأن المسؤولين الأميركيين مازالوا يعيدون النظر بأوجه السياسة الأميركية حيال الصين، وينوون الاستمرار بالتشاور مع حلفاء الولايات المتحدة ما وراء البحار. كلّ هذه التلميحات والتصريحات والتحركات العدائية حتى قبل بدء الاجتماع تهدف إلى تهديد الصين والمسؤولين الصينيين القادمين للاجتماع بعوامل القوة والتحالفات والشراكات التي لدى الولايات المتحدة سواء في الجوار الصيني أم عبر العالم قاصدين من ذلك أن يصل الطرف الصيني إلى الاجتماع مدركاً أنه لن يكون نداً للطرف الأميركي وأن عليه أن يعرف حجمه ومكانته ويخضع للإدارة الأميركية، ولكن هذه التكتيكات الأميركية المعروفة لم تلق آذاناً صاغية لدى ممثلي التنين الصيني. وبدأ الاجتماع بعبارات أميركية غير ودية حيث اتهم المسؤولون الأميركيون بقيادة مستشار الأمن القومي جاك سوليفان ووزير الخارجية بلينكن الصين بأنها تهدّد استقرار العالم؛ فكان ردّ المسؤولين الصينيين الدبلوماسي الرفيع يانغ جيتشي ووزير الخارجية وانغ يي بأن الولايات المتحدة منافقة بحقوق الإنسان بسبب معاملتها للمواطنين الأميركيين السود.
ويجدر التذكير أن حكومة الرئيس الأميركي جو بايدن لم تلغ إلى حد اليوم العقوبات والرسوم التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ولجأت إلى العبارات العامة أنها سوف تعمل مع الصين لمواجهة التحديات المشتركة كالمناخ. واخترع بلينكن في هذا اللقاء عبارة «نظام على أسس وقواعد» وأن الصين تهدد هذا النظام في هونغ كونغ وشيجيانغ ولذلك فإن موضوع هذين الإقليمين ليس مسألة داخلية، والسؤال هو: من وضع هذا النظام ومن وافق عليه ومن له الحق أن يفرضه على الآخرين؟ أي بدلاً من العبارة المعروفة International Order «النظام الدولي» اجترح اليوم بلينكن Rules Based Order ويعتبر تجاوز هذا النظام تهديداً للاستقرار والسلم الدوليين.
والحقيقة أن كلّ لفتة وكل كلمة وعبارة في اللقاء جديرة بالدراسة لأنها تؤشّر إلى أسلوبي عمل مختلفين تماماً وتوجهين يكادان يكونان متناقضين في العمق والثقافة والهدف.
ولا تخلو هذه المقارنات من طرافة تفيد وتمتع طلاب دراسات العلوم السياسية؛ إذ في حين كان الصحفيون والإعلاميون يهمّون بمغادرة المكان لوّح لهم الجانب الأميركي بالبقاء وقدّم لهم الأميركيون ملاحظات إضافية؛ حينذاك أصرّ المسؤولون الصينيون أن يقدّموا ملاحظات إضافية أيضاً، فما كان من المسؤول الأميركي إلا أن اتهم الجانب الصيني بخرق البروتوكول بتجاوز الدقيقتين المتفق عليهما في بداية الجلسة؛ إن دلّ هذا على شيء في العمق فإنه يدل على الاستيعاب الصيني للأساليب الأميركية وتصميمهم على مقارعة الولايات المتحدة بأسلوبها وقواعدها ذاتها.
والحديث عن المقارعة الهادئة والمحكمة والمدروسة ينقلنا إلى «غولن» المنطقة الصينية الجميلة حيث عقد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير خارجية الصين وانغ يي اجتماعات مكثفة وخرجوا بنتائج أكثر من مرضية للطرفين، ولكن أهميتها أيضاً أنها لا تقف عند حدود الطرفين والبلدين وإنما تتجاوز ذلك لتكون مقدمة تمهيدية لإعادة صياغة النظام العالمي من خلال تكتل شرقي تنضمُّ إليه القوى والبلدان والتجمعات الإقليمية من البريكس إلى آسيان إلى أي دولة رافضة للهيمنة الغربية وأسلوب القطب الواحد الذي يضرب عرض الحائط بالقانون الدولي والشرعة الدولية ويتخذ كلّ الإجراءات التي يعتقد أنها تضمن تفرّده في السيطرة لمنع ولادة عالم متعدد الأقطاب.
لقد كان هذا اللقاء الصيني الروسي بمنزلة ولادة مرتقبة لمحور يدرس بعمق كل إمكانات التخلص من هيمنة القطب الواحد والسير بالعالم إلى واقع أكثر عدلاً وكرامة لجميع الدول، ووضع يربح فيه الجميع بدلاً من تسلّط طرف على أطراف أخرى بقوة المال والسلاح. وقد شبّه الطرفان نجاحهما في محاربة Covid 19 بنجاحهما في محاربة الفيروس السياسي الذي يبني قلاعاً من الكذب في كل مكان، وعبّرا عن أن الشراكة الروسية الصينية موجودة لتبقى ولتستمر ولتفتح الأبواب لكل الراغبين في العالم بالانضمام إليها من أجل دعم عالم متعدد الأقطاب قائم على العدل والمساواة والشرعة الدولية والرافض للعقوبات القسرية الأحادية الجانب المفروضة على أي بلد أو طرف لأنها غير قانونية وغير شرعية؛ حيث أكد الطرفان على المستقبل المشترك للبشرية وعلى مبدأ: «الرابح الرابح» حيث لا يوجد خاسرون في هذه الشراكة.
من ناحية سياسية وفكرية فإن لقاء (لافروف -وانغ يي) يعتبر دعوة لجميع الدول والأطراف لإعادة التفكير بالنظام العالمي واتخاذ الموقف السليم منه على أساس عدم الانحياز وعدم المواجهة وعدم الاستهداف لطرف ثالث، وفي هذا الصدد دعت الصين جميع بلدان العالم لإعادة قراءة أهداف ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة وتعزيز نظام القانون الدولي الذي بنته جميع البلدان بجهود مشتركة منذ الحرب العالمية الثانية، وأن نعمل معاً لممارسة التعددية بالمعنى الحقيقي، ولتعزيز الديمقراطية في العلاقات الدولية وبناء عالم ذي مستقبل مشترك للبشرية يحتفي بالاختلافات الثقافية والمؤسساتية ويجعل كل الأطراف رابحة به.
الاجتماع الصيني-الروسي في مدينة غويلين الصينية هو ردٌّ مؤدّب ولكنه حاسم على الخطوط التوجيهية لإستراتيجية الأمن القومي الأميركي التي وقّعها الرئيس بايدن في بداية آذار، وهكذا فلم ينته آذار قبل أن يعبّر القطب الصيني-الروسي عن رأيه في مجمل التوجّهات الأميركية التي وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في مواجهة الصين وروسيا وبقية العالم.
هذا السجال العميق من آلاسكا إلى غويلين هو بداية مخاض عالم جديد حيث يحاول القطب الغربي الحفاظ على هيمنته وتفرّده في نهب ثروات الشعوب عبر الحروب والإرهاب والحصار، ويتصدى له القطب الشرقي بمنظومة ثقافية فكرية أخلاقية سياسية يمكن لها أن تعيد أمجاد حركة عدم الانحياز وتتجاوزها لاستقطاب كل المتضررين من السطوة الغربية الاستعمارية العدوانية على الموارد والثقافة والفكر والإعلام في العالم. وخير طريق هو أن يركز الشرق على التحالفات والشراكات وأن يتقن بناء المؤسسات وأن يُرسي دعائم التعاون والتحالف بأسلوب جذاب يقنع أبناء المعمورة بالانخراط في بناء هذا المستقبل المشترك للبشرية جمعاء.
وقد يكون الاتفاق الذي وقّعته الصين مع إيران لمدة خمسة وعشرين عاماً وبقيمة ثلاثمئة بليون دولار، في شراكة إستراتيجية تبادل النفط بالبضائع وخروج الدولار من اللعبة لبنة مهمة في هذا المسار. وللتاريخ نقول: لقد كان رئيس وزراء العراق السابق عادل عبد المهدي قد وقّع مثل هذه الاتفاقية مع الصين ما حدا بالولايات المتحدة الأميركية لتحريك أدواتها والإطاحة به.
قد يستطيع الغرب أن يتسبّب ببعض البطء لحركة التاريخ ولكنه لا يستطيع أن يوقفها أو أن يعكس اتجاهها.
د. بثينة شعبان – الوطن