هناك نوع من الحرب يبدأ قبل شنّ أي هجوم ويستمر خلاله وبعده وهو الذي يوفّر الأرضية والحالة المجتمعية والسياسية والإعلاميّة لنجاح أي هجوم عسكري في أي مكان ولأي هدف كان، وقد حرصت الدول الغربية الاستعمارية على تخصيص الميزانيات السخيّة ووضع الخطط التفصيلية وشحذ الأدوات المهنية لمثل هذه الحرب بحيث مازالت تتربع على عرش هذه الحرب وتنتصر فيها مرة تلو أخرى وذلك لإغفال الآخرين لهذه الحقيقة المهمة وإحجامهم عن التوقف قليلاً وتغيير جداول ميزانياتهم وأولويات خططهم.
ما أقصده هو الحرب الإعلامية التي يستخدم القائمون عليها من أجهزة المخابرات الغربية خبراء في اللغات والتعبير وخبراء في تاريخ وثقافة وأديان وطوائف الشعوب ليعلموا من أين ينفذون إلى عقول هذه الشعوب وقلوبها ويسيّروها وفقاً للمصالح الغربية، ويستخدمون خبراء في علم النفس وخبراء في الترويج وخبراء في الأصوات والموسيقا والتأثير وربما خبراء في اختصاصات لم نطّلع عليها بعد ومازالت حكراً عليهم ولمراكز أبحاثهم ووسائل إعلامهم؛ إذ إن الدارس لساحة الصراعات والحروب التي تشنها القوى الغربية لنهب ثروات الشعوب وبالأخص الولايات المتحدة التي تشن الحروب اليوم مع أتباعها على دول عديدة يكاد يصاب بالدهشة من المفارقات الجمّة بين الواقع على الأرض وبين الادعاءات التي يتم الترويج لها في إعلام الكون حتى تصبح حقيقة لا يتجرّأ أحد على تحدّيها، وحتى إذا تجرأ فلن يتمكن من قلب المعادلة وإعادة الاعتبار للوقائع التي تشير إلى عكس توجه العاصفة الإعلامية.
الأمثلة أكثر من أن تُحصى، وإذا بدأت بضرب المثال عن وطني سورية فإننا نجد أن الغرب وبعد أن أنشأ غرفاً ومنظمات وموّلها بسخاء لتشويه ما يحدث على الأرض السورية (وقد كشفت تسريبات الوثائق البريطانية عن حرب إعلامية منظمة وممولة منذ اليوم الأول منذ بداية الحرب الإرهابية على سورية) بعد ذلك بدؤوا بإخراج أفلام ومنحها جائزة أوسكار لأكاذيب صمموها واخترعوها وروّجوا لها وأصبحت بالنسبة لهم واقعاً بديلاً يدحض سيرة الواقع المعيش ومن هذه الأفلام «رجل حلب الأخير» و«الكهف»، وبالنسبة لجماهير الغرب فإن هذه الأفلام هي القناة الأساسية التي تنبئهم بما جرى في سورية. رغم أن هذه الأفلام، تماماً كقصة الطفل عمران، هي عبارة عن أكاذيب ملفقة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة قام بها بعض المأجورين وعلى رأسهم فراس فياض لتقديم ما يشتهي الغرب رؤيته وسماعه عن حرب ابتدعها لتدمير حياة الملايين من شعب مسالم في بلد آمن ومستقر يشكّل شوكة في أعين الصهاينة والطامعين بإرث هذه الأمة. وفي الاتهامات المزعومة عن استخدام الحكومة السورية للغازات السامة في دوما وسراقب تأتي هذه الاتهامات لتناقض تناقضاً صارخاً تقرير منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التي أكدت أن سورية قد تخلت عن كلّ أسلحتها الكيميائية وأنها خالية من السلاح الكيميائي وكان هذا منذ سنوات، والبارحة في 16/4/2021 عقد السفير الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا جلسة استماع لخبراء منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وخبراء آخرين في الملف والموضوع أكدوا خلالها وبما لا يدع مجالاً للشك تلاعب بعض العناصر في المنظمة بالتقرير الذي كتبه الفريق الذي زار سورية واستبدلوا به أكاذيب من قبل أطراف لم تطأ أقدامها أرض سورية، كما رفض المسؤولون في المنظمة الاستماع لهؤلاء الذين زاروا سورية والمدير السابق للمنظمة لأن تقاريرهم تؤكد عدم استخدام الحكومة السورية للغازات السامة وأن ما تمّ الترويج له على شاشات التلفزة هو مسرحية إعلامية هزلية لأن هؤلاء الناس لو تعرضوا للغازات السامة لكانوا أمواتاً ولما كانوا موجودين لسكب الماء عليهم.
والذاكرة تعود بنا إلى كولن باول وإلى ادعاءات أميركا بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، وبعد أن أنهوا بحثهم في الملف ووجدوا أنه على الأغلب لا يوجد أي دليل لما أكدوه مراراً وتكراراً ختموا التقرير بالشمع الأحمر وأودعوه أقفال الأمم المتحدة ومنعوا فتحه إلى ما بعد ستين عاماً أي بعد أن يكون كل من عاش وشهد الأحداث أصبح في ذمة الله. وقصص مشابهة كثيرة ومتوافرة عبر الاتهامات التي يكيلونها لروسيا والصين بشأن مواضيع عدة، وعن الأكاذيب التي تطبخ في ذات المطبخ عن الحرب على اليمن وعما يجري في أوكرانيا وعن حقيقة المواقف من الاتفاق النووي الإيراني والقائمة تطول. ولكن ما يثلج الصدر اليوم هو بداية التصدي وإن يكن مازال في بداياته لهذه الحرب المخابراتية الإعلامية الخطيرة؛ إذ إن الجلسة التي عقدها البارحة السفير الروسي في الأمم المتحدة وأعطى المنبر لعدد من الشهود الموثوقين والذين فنّدوا الحقائق حول الملف الكيميائي السوري بطريقة يجب أن تدفع القائمين على التزوير إلى الخجل من أنفسهم وعدم الإقدام على مثل هذه المهزلة مرة أخرى.
وفي الإطار ذاته وبذات الروح قرأت مقالاً في جريدة «الصين اليومية» عن إقليم شيجيانغ بقلم الكاتب فو زو بتاريخ 8/4/2021 فنّد فيه بما لا يدع مجالاً للشك الأكاذيب الأميركية حول إقليم شيجيانغ وأثبت بالأرقام اهتمام الحكومة الصينية بالتعليم لكل سكان هذا الإقليم وبالتعليم الداخلي الذي يوازي بجودته أي تعليم داخلي في العالم. كما يتحدث الكاتب عن تحسين المستوى المعيشي لسكان الإقليم والعمل الذي يدأبون للقيام به لتحسين مستوى معيشتهم وأن الصين تقف ضدّ أي اضطهاد أو تطهير عرقي أو إبادة يدّعي الغرب أن الصين تمارسها في الإقليم. ومن الواضح من تاريخ الصين ومن عملها للقضاء على الفقر في كل الصين وعلى رفع مستوى المعيشة للصينيين أنها حضارة تهتم بالإنسان وبمقدرات عيشه ولا تدخل التفرقة الدينية أو العنصرية في قاموس سياساتها. ومن ناحية أخرى من المضحك أن تدّعي الولايات المتحدة الحرص على حياة المسلمين الإيغور في الصين وعلى تعليمهم ومستوى معيشتهم وقد كرّست منظمات إرهابية ومولتها بالمال ومازالت، لتدمير آلاف المدارس في سورية والتي يرتادها مسلمون ومسيحيون، ولتدمير الجوامع والكنائس والأسواق التاريخية والآثار والحضارة؛ فكيف يمكن أن تكون حريصة على مسلمي الصين ومدمّرة لمسلمي العراق وسورية وليبيا واليمن؟ من أين أتى اهتمام الولايات المتحدة بمسلمي الإيغور في الصين إلا من باب التدخل في شؤون الصين الداخلية، تماماً كما هي سياستها حيال تايوان وهونغ كونغ من جهة، وسياستها تجاه أوكرانيا والقرم بالنسبة إلى روسيا من جهة ثانية. لا يمكن فهم ما تقوم به الولايات المتحدة إلا من باب التدخل في شؤون الدول الداخلية والحرص على أمن إسرائيل وقوتها الإرهابية في المنطقة.
لقد علِمَتْ الولايات المتحدة أن الكيان الصهيوني هو الذي قام بالهجوم على محطة نطنز لتدمير المباحثات الأميركية الإيرانية ولكننا لم نسمع كلمة إدانة لهذا الهجوم من الولايات المتحدة أو من أي دولة غربية. كما أنهم يلتزمون الصمت عن كل الأكاذيب التي يتم الترويج لها عن أوكرانيا والقرم بعد أن اتخذت الولايات المتحدة عقوبات ضد روسيا على أسس واهية لا دليل واحداً فيها على كل الادعاءات بل هي تعترف أن صحة هذه الادعاءات منخفضة إلى متوسطة.
المهم في الموضوع هو أن هذه الحرب المخابراتية الإعلامية التي تسبق وترافق وتستمر إلى ما بعد الحرب العسكرية بحاجة إلى اهتمام شديد وإلى تكريس الميزانيات والخبراء والأدمغة والأقلام لتفنيد كل الادعاءات والردّ عليها من على منصات إعلامية نافذة للغرب وتصل إلى أسماع البشر في كل أنحاء الدنيا تماماً كما فعل السفير فاسيلي نيبينزيا في الجلسة المهمة التي تحدث بها الخبراء وفندوا ألاعيب منظمة الأسلحة الكيميائية، وتماماً كما فعلت جريدة «الصين اليوم» بتفنيد كل الأكاذيب المختلقة حول إقليم شيجيانج. ولا بأس من تخصيص ميزانية سخيّة لهذا الأمر حتى وإن تم اقتطاعها من ميزانيات الدفاع العسكرية لأن الدفاع بالكلمة والترويج للحقائق النابعة من الأرض في وجه الأكاذيب والافتراءات قد يوفّر على الجيوش معارك عسكرية مكلفة وقد يساهم في تثقيف الرأي العام العالمي حول حقيقة السياسات الغربية والكلفة الباهظة التي يدفعها البشر في كل أنحاء الأرض نتيجة هذه السياسات.
إن مواجهة سياسة القطب الواحد وضمان ولادة عالم متعدد الأقطاب تحتاج إلى إستراتيجيات شاملة تتصدى لإستراتيجيات الهيمنة والتدخل والإسفاف والتزوير والذي كلّف دماء وحياة واستقراراً وأمناً لشعوبنا جمعاء.
نحن بحاجة إلى وقفة عميقة صادقة وذكية وشاملة وبحاجة لمقارعة من يشن الهجوم ويدمر البلدان بأدوات أذكى وأدهى من أدواتهم على كل الصعد وفي جميع المجالات.
د. بثينة شعبان – الوطن