لم تغلق إيران سفارتها في كابول، ولا قنصليتها في هيرات، بل بقيتا تعملان كالمعتاد، في الوقت الذي كانت القوات الغربية تقوم بإخلاء سفاراتها، التي لم تسلم من التفجير الذي أصاب مطار كابول، مع أنها، عبر أدواتها الإعلامية والاستخبارية، كانت حذّرت من عمليات محتملة. لكن وزارة الخارجية الإيرانية أعلنت، في 15 آب/أغسطس، أنها أغلقت بعثاتها في كل من جلال آباد وقندهار، وبالطبع في مزار شريف.
لإيران علاقات دبلوماسية بالنظام الأفغاني، وبالرئيس السابق أشرف غاني، ومن قبله بحامد كرزاي، لكنها لطالما اعتبرت النظام موالياً للولايات المتحدة الأميركية. في الوقت عينه، كانت بدأت تعمل على تحسين علاقتها بـ”طالبان”، بعد أن اعتبرتها سابقاً عدوة في إبّان حكمها أفغانستان، بسبب تصفيتها أحد عشر دبلوماسياً وصحافياً في بعثة طهران في مزار شريف، الأمر الذي حمل قسماً من الإيرانيين على الحذر وعدم الثقة بثبات مواقفها المعلنة، حتى لو ادّعت تغيير سياستها. إيران تسعى لحماية الأقليات الشيعية، الهزارة، التي تعرّضت أكثر من مرة للقتل على يدَي “طالبان”، وهي تسعى لحماية مصالحها ومصالح الأقليات العرقية.
إيران: الأمن أولوية
يرى رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران، إبراهيم رئيسي، أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان فرصة من أجل السلام في المنطقة. إيران هي القوة الإقليمية الوحيدة التي عارضت عقد اتفاقية جرى التفاوض عليها بين كل من كابول وواشنطن. لطالما اعتبرت الوجود العسكري الأميركي، عند كل من حدودها الغربية والشرقية في العراق وأفغانستان، مشكلة حقيقية لها. وشكّل القضاء على هذا الوجود أولوية في السياسة الخارجية الإيرانية. يركّز الإيرانيون، بصورة واضحة، على الأهداف الأمنية التي لا تقتصر فقط على الأفق الأقصر لزوال الوجود العسكري الأميركي، بل أيضاً على سياسة الجيران، والعلاقة التي تجمعها بهذا الجار.
هناك كثير من القواسم المشتركة التي تجمع إيران بأفغانستان، بينها اشتراكهما في لغة واحدة، وروابط تاريخية وثقافية ودينية، تسمح لإيران بممارسة بعض النفوذ على بعض المجموعات العرقية والدينية الرئيسية، بمن فيهم الطاجيك والهزارة. وهي لطالما احتفظت بعلاقات بمختلف الجماعات المسلحة، سواء المتحالفة مع القوات الأميركية، أو التي تقاتلها، أو القريبة منها.
أبقى القادة الإيرانيون خطوطاً للتواصل مع “طالبان”، متوقعين الانسحاب الأميركي، وهم سعوا للتسوية معها.
لا شكّ في أن الصراع مع إيران يسيء إلى “طالبان”، ومن مصلحتها أن تنسج أفضل العلاقات بطهران. وكانت “طالبان” أظهرت النيات الحسنة عندما طالبت بتعيين رجل دين شيعي حاكماً لمنطقة في شمالي أفغانستان، على الرغم من بعض الانتهاكات. كما سمحت للشيعة الأفغان بإحياء ذكرى عاشوراء في مزار شريف، وأدانت الهجمات على المساجد والأحياء الشيعية في أفغانستان، والتي نفّذها “داعش”.
محاولات طالبان إدراجَ الأقليات الدينية والعرقية الأفغانية في التحالف الجديد الناشئ في كابول، تحظى بإيجابية من جانب طهران. منذ بدء محادثات السلام مع الولايات المتحدة، ذهب عدد من كبار قادة “طالبان” إلى طهران لإجراء مشاورات، في حين تحاول إيران المحافظة على علاقات جيدة بجميع أصحاب المصلحة الأفغان تقريباً، فضلاً عن القادة السياسيين الأفغان الآخرين. تبدو إيران حريصة على المحافظة على توازن القوى في أفغانستان، في حِقبة ما بعد انسحاب أميركا، إلاّ أنها تراقب بحذر ما سيجري من تشكيل حكومة، ومهمّات هذه الحكومة، وكيفية تشكيلها، وإن كانت ستعلن حكومة وحدة وطنية تعتبرها الأصلح لأفغانستان وجيرانها.
تخشى إيران تغلغل “داعش” في جوار أفغانستان، وزرع الفوضى المطلوبة أميركياً، في هذه المنطقة. وهي تنسّق مع الصين وروسيا في هذا المجال، وتودّ العمل مع الحكومة الأفغانية الجديدة من أجل درء الفتن الداخلية، التي يمكن لـ”داعش” افتعالها.
العلاقات الاقتصادية الأفغانية – الإيرانية ومستقبلها
قدّمت إيران إلى أفغانستان ما يصل إلى 500 مليون دولار أميركي، مساعدات اقتصادية تنموية واجتماعية، وهي شريكة اقتصادية مهمة بالنسبة إلى أفغانستان، ومن الشركاء التجاريين الرئيسيين. فالبَلَدان مترابطان اقتصادياً أكثر مما هو معروف على نطاق واسع. وجاء تعزيز هذه العلاقات بسبب بحث إيران عن فرص اقتصادية في منطقتها، بحيث إن العقوبات الأميركية عزلتها عن الاقتصاد العالمي، وهي بلد يكافح منذ فترة طويلة عزلة اقتصادية مفروضة، إلاّ أنها استفادت على نحو غير مباشِر من تحديث البنية التحتية الأفغانية، وخصوصاً عندما تم الانتهاء من تلك البنية التحتية، بهدف الربط الإقليمي.
تؤدّي أفغانستان دوراً في أسواق العملات الإيرانية، وهي بالفعل شكلت وجهة رئيسية للصادرات الإيرانية غير النفطية، إذ يجري تصدير ما قيمته نحو ملياري دولار سنوياً، والبضائع الإيرانية في متناول المشترين الأفغان.
يعتبر المصدّرون الإيرانيون أفغانستان سوقاً ذات أولوية. وأيّ اضطراب في الداخل الأفغاني سيؤثّر في التجارة، التي سوف تتفاقم مع انخفاض الطلب بين المستهلِكين الأفغان، ولاسيما بعد انخفاض ضخ الدولار الأميركي في إثر حجب وزارة الخزانة الأميركية ذلك بأوامر من بايدن حتى تشكيل الحكومة الأفغانية.
لا غلو في القول إن أفغانستان تُعتبر مصدراً مهماً للعملة الصعبة لإيران، التي ظلت احتياطاتها الأجنبية النقدية مجمَّدة بسبب العقوبات. تجارة البلدين بالعملة الصعبة بلغت 5 ملايين دولار كان يتم تحويلها إلى إيران يومياً من أفغانستان. لكن، مع تجفيف المساعدات الدولية، يؤثّر هذا الموضوع في الرفاهية الاقتصادية للأفغان العاديين، وفي استهلاك البضائع الإيرانية أيضاً. إلاّ أن إيران استأنفت صادرات الوقود إلى أفغانستان بعد أن توقفت بسبب القتال بين الحركة والقوات الحكومية الأفغانية.
تبدو “طالبان” على استعداد لاستكمال علاقتها التجارية بإيران، الأمر الذي سيسمح لطهران باستكمال الحصول على الدولار الأميركي، الذي تحتاج إليه لاستيراد السلع الأساسية. كما يسمح لـ”طالبان” بعدم الوقوع في فخ قَطْع الإمدادات الدولية، ويمكّنها من استيراد السلع الأساسية الحيوية للمحافظة على الاقتصاد الأفغاني.
على الصعيد الجيوسياسي
تنفرد إيران بميزات جيوسياسية تساعدها على إعطاء كثير من المساهمات في ربط منطقة آسيا الوسطى بخطوط اتصال تجارية، وانفتاح في العلاقات الاقتصادية بدول المنطقة. وكشفت إيران مؤخراً ممرين إلى آسيا الوسطى، يجري التجهيز لهما: طريق قيرغيزستان – طاجيكستان – أفغانستان ـ إيران، وطريق إيران – أفغانستان – أوزبكستان.
هناك حالة من القلق والخوف من مرحلة جديدة في وسط آسيا، بعد الانسحاب الأميركي. تخشى موسكو دعم “طالبان” للتطرف الإسلامي، ومحاولة نشره في آسيا الوسطى. لكن، إذا أحسنت “طالبان” اعتبار مصالح بلادها أولوية، فسيفتح هذا الانسحاب آمالاً لها ولبعض القوى العظمى في آسيا من أجل تعزيز نفوذها. الاستقرار هو المطلوب كي يستفيد الأفغان من المتغيرات الاقتصادية الآتية من دون شك. وعلى الرغم من رهانات الولايات المتحدة على صراع “طالبان” مع جيرانها، فإن الصين ترجو تحقيق مكاسب أمنية لخططها الاقتصادية عبر إرسائها الاستقرار في أفغانستان. وستدعم إيران توافقات الصين وروسيا، الأمر الذي سيعطيها نفوذاً أكبر في أفغانستان. وهي حالياً تمتلك نفوذاً يدعّمه تحالف الأوزبك والطاجيك والهزارة.
مشكلتا اللاجئين والتهريب
من المرجَّح أن تركّز طهران على منع تدفق اللاجئين الجدد وتهريب الأسلحة والمخدِّرات.
تشترك إيران وأفغانستان في حدود يبلغ طولها نحو ألف كلم، وتتضمن عدداً من طرق التجارة المربحة. وهي نقطة عبور رئيسية لتهريب الأفيون، وهو مورد اعتمدت عليه “طالبان” لتمويل نفسها، وطريقه الأساسي من إيران.
أفغانستان أكبر منتج للأفيون في العالم، فهي تزوِّد العالم بنحو 80 في المئة من الأفيون الذي يتم تهريب معظمه إلى أوروبا. شاركت “طالبان” أيضاً في تحويل الأفيون إلى مورفين أو هيروين كصادرات مربحة. وساعدت أموال المخدِّرات على تمويل التمرد ضد الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة. كما أن مئات الآلاف من الأفغان، الذين يخشون تفسير “طالبان” المتشدد للإسلام، يتّجهون فعلاً إلى إيران هرباً من بلادهم، حتى لو كان ذلك فقط لإيجاد حياة أفضل للنساء والفتيات. وقد يؤدي ذلك إلى الضغط على حكومة طهران الخاضعة فعلاً لعقوبات أميركية شديدة لم يتم رفعها. وكانت تظاهرات الأفغان اللاجئين في إيران أدانت استيلاء “طالبان” على الحكم بسبب تطرفها.
ما ترجوه إيران هو الاستقرار الداخلي، وفي الجوار، وتخشى محاولات الفوضى التي يمكن ان يسبّبها تنظيم “داعش”.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا