لنكن واضحين منذ البداية، أن هناك مشروعاً انفصالياً يجري العمل عليه بشكل حثيث في الفترة الأخيرة، تقوده واشنطن ومن خلفها تل أبيب مستخدمين عنواناً إثنياً ومظلومية مدعاة بحقوق ثقافية وسياسية وهوياتية ووطنية، تستند إلى احتكار تمثيل الإخوة الكرد، الذين هم جزء عزيز ووطني، بهدف خلق دويلة داخل الدولة، ما يهدد الوحدة الترابية السورية، وينشئ جسماً عميلاً ومسلحاً على الحدود السورية العراقية التركية، ويهدف لاحقاً لربط شمال شرق سورية، مع شمال العراق، وجنوب شرق تركيا، مع الغرب الإيراني، وبالتالي تهديد وحدة دول مركزية في المنطقة.
إن الهدف الأساسي لهذا المشروع خلق إسرائيل الثانية في القرن الحادي والعشرين لتشغل دول المنطقة في صراعات هوياتية وإثنية بعد انحسار المد الديني الطائفي، ومن أجل تبرير بقاء واستمرار إسرائيل الأولى التي كانت نتاج حربين عالميتين، الأولى بفرض التقسيم من خلال سايكس بيكو، والثانية بإعلان الكيان الصهيوني، أما الآن فالمطلوب خلق هذا الجسم الجديد على خلفية الحرب العالمية الثالثة، التي أخذت أشكالاً مختلفة، منها ما سمي بالهندسة الاجتماعية، عبر موجة الثورات المزعومة منذ عام 2010، ثم تدمير المجتمعات، وتغيير الخرائط، وخلق هويات فرعية لتدمير الهوية القومية تحت عناوين براقة مثل الحريات والديمقراطية وحقوق الأقليات وصراع الهويات: عربي فارسي، عربي كردي، عربي تركي، والجوهر في كل هذا استمرار استعباد الشعوب، ونهب ثرواتها، وجعلها تعيش موتاً سريرياً، أي جسد بلا روح.
بصراحة أكثر كي يستمر النظام الفاشي الصهيوني في العيش، لابد من تدمير عوامل القوة في محيطه، وخلق كانتونات طائفية مذهبية وإثنية، وهنا لا يخفي أصحاب مشروع «الشرق الأوسط الكبير» ثم «الجديد» هذه النيات، ومثل هذا المشروع لم يكن لينجح لولا توافر المرتكزات المحلية، أي الحوامل المحلية، ولنكن واضحين أكثر بأن هذا المشروع الخطير نجح إلى حد ما في تفتيت العراق مثلاً إلى قوى دينية مذهبية وإثنية بعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة وكتابة دستوره، وإنتاج حالة سياسية قابلة للاستعصاء في أي وقت، ويقابله من الطرف الآخر لبنان بنموذجه الطائفي القديم الذي كان نتاج سايكس بيكو، حتى الوصول إلى مصطلحي «اللبننة»- أو «العرقنة»، اللذين عُرضا على سورية كإطار لإيقاف العدوان والحرب عليها، وكان هذا العرض من قبل الأخضر الإبراهيمي عندما كان ممثلاً للأمين العام للأمم المتحدة، إذ تحدث آنذاك عن طائف سوري كمخرج للحل، على شاكلة اتفاق الطائف اللبناني، أي تركيب نموذج للسلطة السياسية يقوم على نظام محاصصة يدار من قبل قوى خارجية تتحكم به، فيفقد المواطن الانتماء الوطني، ويتحول إلى انتماءات أضيق وأصغر بهدف قتل الانتماء للهوية العربية والهوية القومية، وتحويل بلداننا إلى مشروعات حروب متنقلة، تجري كل عقد أو عقدين.
هنا استطاعت سورية بثبات وشجاعة شعبها وجيشها وقائدها الرئيس بشار الأسد، تفادي هذه الفخاخ التي نصبت لها طوال عقد من الزمن، وعندما سقط المشروع الطائفي المذهبي بقيادة جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمهم العالمي، انتقلت قوى العدوان إلى إنتاج المشروع الإثني الذي بتقديري كان هو المشروع الأساسي للمنطقة لأنه يفتت أربع دول مركزية هي: سورية والعراق وإيران وتركيا، وينقلها إلى صراعات إثنية وهوياتية وتفتيتية، تخدم المشروع الصهيوني كذراع متقدمة لمشروع العولمة الأميركي الغربي.
هنا دعوني أسجل الملاحظات التالية:
1- لا يمكن أبداً اعتبار مشروع ما يسمى إدارة ذاتية ابتكاراً «قسدياً»، بل هو مشروع أميركي يهدف لاحقاً لخلق دويلة عميلة للاحتلال الأميركي ومشروعاته، مهما تدثر هؤلاء بلباس الوطنية، فقادة هذه الإدارة المزعومة يزورون واشنطن واستوكهولم وأوسلو وباريس ولندن، لكنهم يرون دمشق بعيدة عنهم، ويدعون بتصريحات علنية أن هناك خلافات مع دمشق، ولا أفهم هنا كيف يمكن لواشنطن أن تكون أقرب إليهم من دمشق!
باختصار مهما تفلسفوا علينا، نقول لهم: أوراقكم مفضوحة ومكشوفة وأنتم لا تمثلون السوريين الكرد إنما تمثلون مشروعاً للعملاء فقط!
2- إن الإحصاء الذي تقوم به هذه القوة العميلة هدفه تفريغ المنطقة من العنصر العربي تحت عنوان وتهمة جاهزة، وهي الانتماء لـ«داعش»، وطردهم على الطريقة الصهيونية التي مورست في فلسطين، وهو مشروع خطير سيواجه من قبل السوريين.
3- ما يدلل على رعاية واشنطن لهذا المشروع، هو رفع العقوبات الظالمة المسماة بـ«قيصر» عن هذه المناطق لدعمها وتقويتها على حساب بقية السوريين، وهنا نطرح سؤالاً: كيف يمكن لواشنطن أن تكون حريصة إنسانياً على جزء من السوريين وليس كلهم، خاصة في البعد الإنساني الذي تكذب فيه واشنطن والغرب عموماً علينا، والهدف من الدعم الاقتصادي هو إنشاء نموذج «شمال العراق» كمرحلة أولى، لأنه وعلى الرغم مما حصل عليه زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني في الدستور العراقي لكنه مع ذلك عمل على مشروع الانفصال الذي سقط بتحالف دول جوار العراق!
4- إن ممارسات ميليشيات «قسد» تشبه إلى حد بعيد ممارسات العصابات الصهيونية، ومنها: التهجير القسري، خطف الأطفال القصر، التجويع، قطع المياه والكهرباء، سرقة الموارد، وإذا كان هؤلاء يدعون التمثيل الشعبي فهل هذه سلوكيات من يدعي تمثيل الناس، أضف لذلك أننا نعول على العنصر العربي الذي يجب أن نعترف أنه عنصر غالب في ميليشيا «قسد» من خلال المال، والمغريات الأخرى والتهديدات وتجويع الناس، من دون أن يدرك هؤلاء أنهم سيرمون إلى مزابل التاريخ حينما تنتهي مهمتهم، والانتماء للوطن هو الأقوى، والأكثر استدامة، أما النمط الميليشياوي فقد سقط في كل المناطق السورية، ولن تنفع هؤلاء واشنطن في لحظة الحقيقة.
5- النقطة الأخيرة أن كل الحوار الذي يجري في «لجنة مناقشة الدستور» هدفه إلغاء الهوية العروبية لسورية وشعبها، وكلام أحد مسؤولي «قسد» قبل فترة عن أن الهوية السورية لم تعد جامعة هو جزء من تنفيذ المشروع للشرق الأوسط الجديد أي التقسيم على أساس المذاهب والطوائف والإثنيات، وهنا أوضح أن العروبة هي وعاء ثقافي حضاري لكل المكونات، وليست عرقاً، سواء أحب البعض اللغة العربية أم لم يحبوها، فهي لغة عالمية، وجامع ثقافي مهم جداً، أما اللغات الأخرى فهي من حق من يتكلم بها أن يتعلمها، ولكن يجب أن تبقى العربية هي اللغة الجامعة للجميع.
«قسد» نموذج سيسقط مهما تجبر وتكبر، وهو نموذج مخادع من خلال تسميته «قوات سورية الديمقراطية»، فلا هي سورية، ولا ديمقراطية، بل هي نموذج من إنتاج مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، ولن يمر في هذه البلاد، وهو تحدٍ، ولكنه أيضاً فرصة لفهم جوهر هذا المشروع اللاوطني، والانفصالي، والتوءم للمشروع الصهيوني الذي يدعم هذه الطروحات منذ خمسينيات القرن الماضي، والتعويل الكبير في إسقاطه يقع على الشعب السوري لأنه خطير، وسيؤدي إلى زرع جسم غريب يهدد وحدة الدولة والأرض والشعب، وطالما أن واشنطن تدعمه فهو مشروع قذر شكلاً ومضموناً، وثقتنا كبيرة بقدرة الشعب السوري وحلفائه على إسقاطه.