أخذت مظاهراتُ الاحتجاج الواسعة موقعَها في المشهد السياسي داخل الكيان الإسرائيلي، وأثبتت من خلال تواصلها وشعاراتها ولجانها قدرةً على رسم برنامجها الاحتجاجي وتطويره، وإنتاج ما يمنع تمدّد السياسات اليمينيّة المتطرّفة، وبحكم قوّة تناقضاتها توصّل إلى صناعة أزمة وجودٍ للكيان وإدارته الاحتلاليّة الاستيطانيّة أو هكذا يتبيّن من الاستمراريّة فيها والمشاركة الواسعة وطبيعة العلاقة والصراع بين قواها والقوى الدكتاتوريّة المتنفّذة ومؤيّديها في المشهد السياسي. فمنذ فوز حكومة اليمين المتطرّف بزعامة بنيامين نتنياهو في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وإصراره على سياساته اليمينيّة المتطرّفة، ومنها خطّة إضعاف القضاء وتقويض المحكمة العليا، التي تقدّم بها وزير القضاء ياريف ليفين ورئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء في “الكنيست” سيمحا روتمان، اندلعت مظاهراتٌ شعبيّةٌ كبيرةٌ في أغلب المدن الفلسطينيّة تحت احتلال الكيان الإسرائيلي، وتواصلت كل أسبوعٍ بانتظام، إضافةً إلى الحراكات اليوميّة المواجهة والمباشرة للأحداث المتعلّقة بها، ولم تتوقّف بل تتوسّع رقعتها الجغرافيّة وأعداد المحتجّين فيها، بما فيها من المؤسّسات العسكريّة، حيث شملت عشرات البلدات المحتلّة من الشمال وحتى الجنوب، من بينها مظاهراتٌ في “تل أبيب وحيفا وبئر السبع و القدس ونتانيا وأسدود وهرتسليا وروش هعين وبيت شيمش وكفار سابا وبات يام”.
بالنسبة إلى حكومة نتنياهو وحلفائه؛ يهدفُ نصّ “الإصلاح” من بين أمورٍ أخرى إلى إعادة توازن السلطات من خلال تعزيز صلاحيات البرلمان على حساب المحكمة العليا التي تعدّها مسيّسة، وفرض سياساتها المتطرّفة إلّا أنّها وبعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من بَدْءِ تصاعد مظاهرات الاحتجاج، من المدنيين والعسكريين، من بداية العام، وتوجيه اتهاماتٍ للولايات المتحدة الأمريكيّة من قبل وزراء ومسؤولين في التدخل وتشجيع الاحتجاج؛ فرضت على حكومة نتنياهو تأجيل تنفيذ الإجراءات وخطة “الإصلاح القضائي”، أو تعليقها، لغاية نهاية الصيف من هذا العام 2023، في محاولة انحناءٍ أمام عاصفة الاحتجاج الواسع والحراك المدني والعسكري في الشارع والمؤسّسات العسكريّة والمعارضة السياسيّة.
صور المظاهرات المنقولة مباشرة تكشف عن تظاهر عشرات الآلاف في المظاهرة المركزية بشارع “كابلان” بتل أبيب، وما يماثلها في المدن الأخرى، كما نقل عن قادة الاحتجاجات تحذيرهم: “أمامنا خطرٌ واضحٌ وفوري، إذا سيطرت الحكومة على لجنة تعيين القضاة فإنّها ستتفاجأ بقوّة الرد على ذلك”، مؤكّدين أن الاحتجاجات العامة فقط هي من ستمنع تعيين “قضاة محكومين”، وهم على معرفةٍ تامّةٍ بأساليب الرد والوقوف بوجه سياسات اليمين المتطرّف وخططه القمعيّة، وهو ما يقومون به في هذه المظاهرات وتصاعدها وتطوّراتها التي تعلن عنها، وتقدّم مؤشّراتٍ واضحةً على تعمّق الأزمة بين المحتجين والحكومة وقراراتها.
تتنوّع المظاهرات وتزداد متابعتها لمطالبها، فإضافةً إلى المركزية المستمرة، حدثت مثلًا في قيسارية، حيث تظاهر المئات قبالة الفندق الذي التقى فيه رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي، نتنياهو، ووزير قضائها ياريف ليفين، وسط انتشار قواتٍ معزّزةٍ من الأمن التي منعت المتظاهرين من الاقتراب من الفندق. وطالب المتظاهرون الوزير بالخروج والاستماع إليهم، كما أطلقوا هتافاتٍ من بينها “ليفين، هنا ليست بولندا”. وكذلك في بئر السبع، تظاهر أكثر من ألف شخصٍ بينهم رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، الذي دعا إلى تصعيد الاحتجاجات والوصول إلى عصيانٍ مدني.
رغم وعود تعليق التصويت وإجراءاته إلى نهاية الصيف أعلن قادة المظاهرات، مع علمهم جيّدًا بخطط الحكومة وقيادتها اليمينيّة المتطرّفة وأهدافها، واستمرار مظاهراتهم ومطالبهم، في عموم المدن الفلسطينية المحتلّة، في (تل أبيب) وفي (نتانيا) وفي (حيفا) و(بئر السبع) وفي (رحوفوت) وفي (كفار سابا) وفي عددٍ من المراكز الأخرى، واجهتها شرطة الاحتلال “الإسرائيليّة” بإغلاق العديد من الشوارع أمام حركة السير تزامنًا مع الاحتجاجات؛ واعتقلت الشرطة عددًا من المتظاهرين بتهمة “إثارة الشغب” في الشارع الإسرائيلي!
مع استمرار التظاهر واتّساع الاحتجاج أكّد رئيس وزراء الكيان السابق (يائير لابيد) أنّ خطّة حكومة نتنياهو بشكلها الحالي بمثابة نهاية الديمقراطية وبداية عهدٍ ديكتاتوري في الكيان، ووصف الوضع القائم في الكيان الآن بأنه “انقلاب سلطة”، إثر إقصاء (نتنياهو) الكثير من القيادات السياسية من (الليكود) وخارجه، لدرجة بات العديد من القيادات السياسيّة “الإسرائيليّة” الصاعدة آنذاك معادية له ومنهم ( إيهود باراك) و(إيهود أولمرت) و(أفيغدور ليبرمان) و(نفتالي بينيت) الذي خلفه لاحقًا عند إقامة حكومة مناوئة لليكود وترأسها مدة سنة ونصف بالتعاون مع (يائير لابيد) في رئاسة الوزراء ورئيس المعارضة الحالي.
تواجه المظاهرات كل أعمال الحكومة اليمينية المتطرفة، وتتحمل إجراءات شرطة الاحتلال بحقها، فقد أصيب عدد من المتظاهرين، فيما اعتقل محتجون، خلال أعمال تفريق الشرطة بالقوة للمظاهرات التي تنظّمها الحركة الاحتجاجية في أكثر من منطقة في فلسطين المحتلة.
تهدفُ المظاهراتُ إلى التصدي لاستفراد رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في قراره بشأن وجود عضو كنيست عن المعارضة في لجنة تعيين القضاة، ونجحت المظاهرات في دفع الكنيست للتصويت ضده. إذ من المفترض انتخاب عضوين لهذه اللجنة، الذي في حال لم يُعيّن ممثّل عن المعارضة في اللجنة المذكورة، قد يؤدي ذلك إلى تفجّر المفاوضات الدائرة منذ أسابيع، بشأن ما يسميه «الإصلاح القضائي»، في مقر رئيس الكيان الإسرائيلي، يتسحاق هرتسوغ.
خارطة الحراكات منوّعة وموزّعة ومن بينها، قاطع محتجون خطاب وزير الاقتصاد، نير بركات، أثناء مشاركته في مؤتمر اقتصادي في مستوطنة «سديروت» جنوب فلسطين المحتلة، بعدما اقتحموا قاعة المؤتمر في تظاهرةٍ نظّموها أمام المبنى. وإثر ذلك، تظاهر المحتجون أمام مركز الشرطة في المستوطنة المذكورة عقب اعتقال أحد قادة الحركة الاحتجاجيّة، أمير هاسكل، الذي يحمل رتبة عميد في الاحتياط، الذي أصيب أثناء اعتقاله ونقل للمستشفى لتلقي العلاج. وفي وقتٍ لاحق، نظّمت تظاهرة شبيهة ضدّ بركات خلال وجوده في فندق «كارلتون» في تل أبيب، وجرى اعتقال ثلاثة محتجين آخرين بتهمة «خرق النظام العام». وتظاهر محتجون آخرون ضد وزير التربية والتعليم، يوآف كيش، في مستوطنة «موديعين»، وضد وزير «الشتات»، عميحاي شيكلي، في تظاهرة نُظّمت في مستوطنة «ميغدال هعيمق» في الجليل الأسفل.
أصدر قادة احتجاجات «مناهضة الديكتاتورية» بيانًا قالوا فيه: «نشهد في الساعات الأخيرة اعتقالاتٍ تعسفيّةً وعنفًا شديدًا للشرطة الإسرائيليّة ضد مواطنين ينفّذون حقهم الديمقراطي بالاحتجاج ضد وزراء وأعضاء كنيست شركاء في محاولة الانقلاب القضائي»، مطالبين «قادة المعارضة، وخاصة رئيس حزب المعسكر الوطني، بيني غانتس، ورئيس حزب هناك مستقبل، يائير لابيد، بالوقوف إلى جانب المعتقلين». وأشار البيان إلى أنه «في هذه الأيام السوداء التي يستخدم فيها المدان بالتحريض على الإرهاب بن غفير الشرطة أداةَ قمعِ احتجاجٍ مدني غير عنيف، هذه أيام مخزية لدولة إسرائيل»!
أثبتت احتجاجات الشوارع والساحات في مدن رئيسية عدّة في الكيان الإسرائيلي قدرتها على الاستمرار والحراك المدني، مثل تجمع آلاف المحتجين على الطرق الرئيسيّة في مدينة تل أبيب، رافعين الأعلام الإسرائيليّة ولافتات كُتب عليها شعارات مناهضة للتعديلات (الانقلاب القضائي) ما سبّب في اضطرابٍ كبيرٍ في حركة المرور، وكان قد شارك في تل أبيب وحدها نحو 120 ألف متظاهر في مركز المدينة، بجانب مقر وزارة الحرب والمكاتب الحكوميّة. وتحدث في المظاهرات المركزية في تل أبيب مفوض الشرطة السابق موشيه كرادي، والقائد الجوي السابق أمير إيشيل، والقاضية المتقاعدة هيلا جيرستل، ومدير شركة Forter ليران ديماري. ونظمت مظاهرات أخرى في مدنٍ أخرى في جميع أنحاء الكيان، شارك فيها رئيس حزب “يسرائيل بيتينو” أفيغدور ليبرمان في مظاهرة نتانيا. كما انطلقت مظاهرات في رحوفوت وحيفا، بمشاركة أكثر من 25 ألف متظاهر، وشارك أكثر من 35 ألف متظاهر في مدينة القدس المحتلة وبئر السبع، وتزامنت المظاهرات الاحتجاجية مع إغلاق الشرطة الإسرائيليّة شوارع عدّة في تل أبيب والقدس وحيفا وبئر السبع.
أقيم يوم بعنوان “يوم المقاومة” لمنظمي الاحتجاج، تظاهر فيه عشرات الآلاف في جميع أنحاء الكيان، وقام آلاف المتظاهرين خلال النهار بإغلاق ممرات شارع أيالون أمام حركة المرور، إضافةً إلى إغلاق الطرق المؤدّية إلى مطار بن غوريون الدولي، واعتقلت الشرطة عددًا من المتظاهرين، ومنعت آخرين من المشاركة فيها.
هذه المظاهرات وهذه الأعداد والاستمراريّة فيها خلال شهور متواصلة هي الأكبر التي شهدها الكيان الإسرائيلي على الإطلاق، ووفق ما نشرته وكالة الأخبار الفرنسية (25-04-2023) تظاهر آلاف الإسرائيليين، في تل أبيب تزامنًا مع بدء احتفالات ما يسمّونه بالذكرى الـ 75 لقيام الكيان الإسرائيلي. وأفادت الوكالة في تقريرها بتظاهر آلاف الإسرائيليين أسبوعيًّا ضد إعلان “الإصلاح القضائي” الذي تريد تنفيذه حكومة بنيامين نتانياهو، الذي يعدّه منتقدوه مناهضًا للديموقراطية، وفتح الطريق أمام انحرافاتٍ استبداديّة. وأشارت الوكالة إلى أن المحتجين يرفعون علم الكيان الإسرائيلي ويردّدون شعارات “ديموقراطية” ويقيمون حفلات لمغنين شعبيين، كما تشهده مدن أخرى، حيث أقيمت منصات وحفلات موسيقية مفتوحة في الشوارع.
وذكرت الوكالة قيام مؤيدي “الإصلاح القانوني” التجمع أمام الكنيست (البرلمان)، بأعداد موازية وبالضد من رافضيه الذين يتظاهرون أسبوعيًّا للتنديد بخطط حكومة نتنياهو، رغم قرارها “تعليق” الإصلاح لإعطاء “فرصة للحوار”، كما تدعي ويصرح نتنياهو. ووقف اشتداد الاحتجاج وبدء إضراب عام ونشوء توترات داخل الائتلاف الحاكم، من جهة وتصاعد الاحتجاج ومحاصرة بيت نتنياهو في مظاهراتٍ مستمرّة، وكذلك الكنيست من جهةٍ أخرى.
هذه الصورةُ للمشهد السياسي اليومي تكشف انقسامًا واضحًا داخل المجتمع الإسرائيلي ومؤسّساته العسكريّة والمدنيّة، وتدخّلات مختلفة في إطار العلاقات بين الإدارات الإمبرياليّة وقاعدتها العسكريّة الاستراتيجيّة في المنطقة. ورغم مواقف الدعم والحماية الكاملة للكيان، خصوصًا من الإدارتين الأمريكيّة والبريطانيّة، عسكريًّا وأمنيًّا وسياسيًّا، علنًا وسرًّا، والانحياز الكامل لكيان الاحتلال والاستيطان في كل المؤسّسات والمحافل الدوليّة، إلّا أنّ مسار الاحتجاج والحراك الواسع يشي بتدحرج أزمة وجود الكيان وطبيعة الصراع الداخلي فيه، ولا سيّما امتداد الصراع داخل المؤسسة العسكرية في موازاة المؤسسات الاخرى، النقابيّة والمدنيّة؛ الأمرُ الذي أخذ مداه في وعي قادة الرأي العام والمؤسّسات الأمنيّة في التنبيه من انهيار وجود الكيان ذاته، وجدوى مهمّاته الاستراتيجيّة في المنطقة.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا