وضعت حرب غزة، التي أثبتت أشهرها السبعة المنصرمة أنها كانت تحدياً هو الأكبر من نوعه مما اعترض أي رئيس أميركي سابق منذ زرع الكيان الإسرائيلي في المنطقة عام 1948، الرئيس جو بايدن أمام معادلة مركبة يتوجب عليه فيها، من جهة، المحافظة على قوة ردع إسرائيل بوصفها ذراعاً ضاربةً للهيمنة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط وما حولها، ومن جهة أخرى المحافظة على «القوة الناعمة» المستخدمة لتعزيز تلك الهيمنة، حيث للفعل الأخير متطلباته التي تبدأ عند «أخلاقية» السياسة و«قانونية» الدعم، وهي لا تنتهي عند حدود «البعد الإنساني» الذي لا يمكن لأي قوة، ولا لأي حضارة، أن تتجاهله، تحت طائلة حدوث انحرافات في مسارها قد تكون لها تداعيات خطرة على المستويين الداخلي والخارجي على حد سواء.
كانت الصور الأولى التي تسربت فجر الـ7 من تشرين الأول الماضي قد قرأت في واشنطن على أنها مشروع لقص «الذراع» الأميركية الأمضى، ولربما كان التردد، في كيفية التعاطي مع المشروع، هو سيد المشهد، الأمر الذي تبرزه التصريحات التي أدلى بها بايدن خلال زيارته لإسرائيل التي حدثت على بُعْد أيام فقط من ذلك المشروع، ومن خلالها سعى الأخير إلى ربط ما فعلته «حماس» راهناً بما فعلته «داعش» قبل أعوام، كان ذلك محاولة لتغليب «القوة الناعمة»، حيث من شأن نجاح الفعل أن يخفف من تداعيات التوحش الإسرائيلي الذي كانت تل أبيب ماضية إليه من دون أدنى شك في ذلك، ويخفف أيضاً من التداعيات المحتملة للإسناد الأميركي لذلك الفعل الذي سيضع واشنطن في خانة السلوك عينها، خصوصاً إذا ما طال أمد هذا الأخير كما كانت التوقعات تقول، لكن عدم النجاح كان قد وضع «اليد» الأولى لبايدن في نار بدت درجاتها تتعالى على وقع الحدث الذي راح يتخذ أبعاداً، ميدانية ودولية، تشي بإمكان انقلاب المشهد خصوصاً لجهة تهشم الصورة الأميركية التي بدت شديدة الهشاشة، وهي لا تصمد عند أول معايرة لها إذا ما وضعت في مواجهة السياسات التي انتهجتها واشنطن حيال الحرب الأوكرانية التي كانت مثالاً طازجاً، وهو ليس بحاجة للنبش أو إعادة الإحياء.
شكلت مشاهد القتل والدمار الحاصلة في غزة صدمة لـ«الغرب» بمستوياته كافة، وإذا ما ظل مستواه السياسي عند مواقفه القائلة بـ«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» فإن مستوياته الفكرية والثقافية راحت تغرد بعيداً عن تلك المواقف، كانت كرة النار التي راحت إسرائيل تعمل على دحرجتها قد أثقلت على المستويين الأخيرين مما راحت تداعياته تزداد بشكل مضطرد، الفعل الذي تمظهر في دوائر النار التي شهدتها الجامعات الأميركية أولا ثم ما لبثت أن تمددت، وإن بدرجة أقل حتى الآن، إلى نظيراتها الأوروبية، والفعل من حيث النتيجة كان من النوع الذي لا يمكن إسقاطه من حسابات السياسة الأميركية عموماً، فكيف والأمر يحصل على بُعْد أشهر ستة من انتخابات رئاسية جميع معطياتها تشير إلى أنها ستكون الأهم مما شهدته نظيراتها خلال الـ250 عاماً المنصرمة التي هي عمر الكيان الأميركي.
كان التهديد الذي أطلقه بايدن من على منبر «سي إن إن» قبل أيام ملمحاً فيه إلى إمكان أن تذهب إدارته لاتخاذ قرار بـ«قطع تدفق أنواع معينة للأسلحة إلى إسرائيل» في حال لم تستجب الأخيرة لـ«التحذيرات الأميركية»، وفي حال «قيام القوات الإسرائيلية بعملية برية واسعة النطاق في رفح»، نقول كان ذلك التهديد خطوة متأخرة في سياق الضغط الأميركي على القيادة الإسرائيلية التي باتت ترى في التصعيد خياراً وحيداً للملمة الأشلاء التي تناثرت بدءاً من «الهيبة» ووصولاً إلى «لحمة النسيج المجتمعي»، وما بينهما «وظيفية» باتت على المحك هذا إن لم تكن هذه الأخيرة قد أضحت في الوضعية المشكوك فيها حتى في أعتى دوائر صنع القرار في الغرب بما فيها تلك التي عرفت تاريخياً بالدفاع عن تلك الوظيفية، والراجح هنا أن تهديداً كهذا لن يكون مجدياً، ولربما لو حدث إبان توقيت مبكر من بدء الحرب لكان له تأثير من نوع آخر، إذ لطالما كان من المؤكد أن إسرائيل لا تستطيع خوض حرب طويلة، كما هي حال «طوفان الأقصى»، من دون دعم وإسناد أميركيين قد يصلان حدود المشاركة المباشرة التي قد تكون حدثت فعلاً في غزة من دون إفصاح.
قرار بايدن المتأخر يأتي كمحاولة لإعادة التوازن بين حدي المعادلة آنفة الذكر، ترميم «الذراع» والحفاظ على «أخلاقية» القوة العظمى، لكن الراجح أن المحاولة، التي لها حسابات أخرى، لن تنجح، فاستطلاعات الرأي الأميركية تقول إن عديد المتعاطفين مع إسرائيل كان قد انخفض من 35 بالمئة، منتصف شهر تشرين أول الماضي، إلى 15 بالمئة اليوم، أما استطلاع «الإيكونوميست»، الجاري منتصف شهر نيسان الماضي، فيقول إن ما نسبته 53 بالمئة من الديمقراطيين يرون أن «إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد المدنيين الفلسطينيين»، ولهذا الأخير دلالة مهمة تشير إلى اضطراب الدائرة الحزبية القريبة من بايدن ما يضع «اليد» الثانية لهذا الأخير في النار أيضاً.
عندما تتضارب الحسابات الشخصية مع حسابات المصلحة العليا لأي بلد، فتنتصر الأولى على الأخيرة، فإن هذا يؤسس لمسار انحدار القوة في ذلك البلد، ويرسي في الآن ذاته لبدء حصول تهتكات في بنيانه، والشاهد هنا أن ملامح يدي بايدن، اللتين باتت كلتاهما في النار، ترسمان مشهداً بليغاً لمسار الانحدار في القوة الأميركية التي ولجت طور التهتكات الذي لا يبدو أنه سوف يطول.
الوطن السورية .