الأخطاء هي جزءٌ لا يتجزّأ من تكوينِ الإنسان، ومن يظن نفسهُ لا يخطِئ كمن يحاوِل عبثاً إقناعَنا بأنّ الأرض ليسَت كروية، لكن من الميزاتِ التي منحنا إياها العقل أننا لا يجب فقط أن نُدركَ أخطاءنا، بل الأهم أننا يجب أن ندركَ طبيعةَ من يحاولُ مغالطتنا، تحديداً أولئكَ الذين تراهم يكذبون ولا يقنعون أنفسهم فقط بأنهم صادقون لكنهم يجهدون لإقناع من حولهم بذلك، هؤلاء تعدوا مرحلةَ الخطأ ليصلوا لمرحلةِ الحماقة، وإن كان علماء النفس صنفوا الحماقة بتصنيفات عدة بحسبِ ما تنتجهُ من كوارثَ على الأحمق، فإن نوعاً جديداً من الحماقة يجب أن يكون قادراً على وضعِ هؤلاء في بوتقةٍ واحدة وهو مصطلح: «حماقة الدهاء».
الدهاء هو وهمٌ من أوهامِ فرطِ الذكاء لكنه ببساطةٍ يبدو تاريخياً حكراً على رجال الدول والسياسة، فمثلاً من الطبيعي أن نسمع وسط هذه الاضطرابات التي تعيشها فرنسا أن إرهابياً يطلق النار على مجموعةٍ من الناس في سوق للميلاد بمدينة ستراسبورغ ليقتل خمسة ويجرح مثلهم، ثم وبعد يومين وقبل أن تعلنَ داعش عن تبني العملية تقوم الشرطة الفرنسية كما فعلت مع غيرهِ بمحاصرتهِ وقتله ليموت وتموتَ معه حقيقة دوافعهِ الأساسية لما قام به، لكن فرط الدهاءِ هذا لم يمنع المتظاهرين الفرنسيين من إكمال ما بدؤوا به، فهل ننتظر أن تقع السلطات الفرنسية رسمياً بما سميناهُ «حماقةَ الدهاء» فنجد الأحداث الإرهابية تبدو بصورة متنقلة على الأراضي الفرنسية!
كذلك الأمر، من كان يحلُم يوماً بأن يعقِد مجلس الشيوخ الأميركي اجتماعاً يخصهُ لاستجوابِ ممثلٍ عن شركة غوغل ليشرحَ لهم أسبابَ وجود صورة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عند البحث عن كلمة «أحمق»، هل مجلس الشيوخ فعلياً منزعج أن من يحكمهم أحمق، أم إنهم أرادوا من خلال هذا الاستجواب المزيد من الفضيحة لأحمقِ البيت الأبيض!
اللافت أنّ ذات الحمقى كانوا قد اجتمعوا ليِدينوا حليفَهم الأساسي محمد بن سلمان بقتل الصحفي جمال خاشقجي والذي فيما يبدو كان قد قتله بـ«حماقة»، كما قادتهُ حماقتهُ سابقاً إلى حربٍ قتلَ ودمرَ فيها بلداً آمناً كاليمن بغطاءٍ أميركي لدرجةٍ بتنا نظن فيها وكأن هذا المحور محكومٌ بالحماقة فكيف ذلك؟
ربما لم يتوقع دونالد ترامب أن تأتيهِ الصفعةَ من المقربين تحديداً أنهُ لم يفقد الأغلبية في مجلس الشيوخ وهو إن كان يعد العدة لمواجهة الديمقراطيين في مجلس النواب مع انطلاقة العام القادم بقيادة المخضرمة نانسي بيلوسي، إلا أن قرار مجلس الشيوخ بما يتعلق بولي العهد السعودي والحرب على اليمن يبدو كطعنةٍ في الظهر، لكن يبقى السؤال المنطقي تحديداً لكل أولئك المعجبين بالديمقراطية الأميركية وقدرةِ مؤسساتها على الوقوف حتى بوجهِ قرارات الرئيس:
لماذا استيقظ مجلس الشيوخ الآن بعد كل تلك المجازر التي ارتكبها آل سعود وتحالفهم المجرم على اليمن؟ مع أن الأميركي ذات نفسهِ لم يدخل بهذهِ الحرب بصورةٍ مباشرة، فيما صمتَ عن المجازر التي ترتكبها الولايات المتحدة في سورية عبر التحالف غير الشرعي الذي تقوده مباشرةً الولاياتِ المتحدة؟ ألم يروا كيف حوَّل هذا التحالف مدينةَ الرقة أثراً بعد عين، وكيف حول منطقة «هجين» بريف دير الزور إلى منصةِ شواءٍ لأجساد المدنيين يتراقص حولها الانفصاليون الأكراد ومن معهم؟ هل من أحمق فعلياً يعتقد أن القضية لعبة ديمقراطية وهذا الجنون في المؤسسات الأميركية قسَّمَ وحوَّل الولايات المتحدة إلى ساحةِ صراعٍ داخلية، قبل أن تكون ساحة صراعٍ خارجية وبمعنى آخر: إن الإنسانيةَ اليوم لا تدفع ثمن سياسات الولايات المتحدة كما جرت العادة عندما كان هناك رئيس أميركي يتخذ قرارَه بحربٍ ما أو حصارٍ لدولةٍ ما، الإنسانية اليوم تدفع ثمن تضعضع الوضع الداخلي الأميركي وانقسامه بطريقةٍ أقل ما يقال عنها إنها أشبهَ بالهزات الارتدادية التي تصيب منطقة ما، وهل من هزةٍ أقوى من مواجهة دولٍ يقودهُا المصابون بـ«حماقةِ الدهاء»، فكيف ذلك:
يوماً ما قادت الحماقة رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان للردِّ على الأمر الأميركي بإطلاق سراح القس الأميركي آندرو روبنسون الذي احتجزته تركيا بالقول: «لن تأخذوه طالما أن هذا الفقير في القصر الجمهوري»، في إشارةٍ إلى رفضهِ كرئيسٍ لتركيا كل أشكال التهديدات الأميركية، يومها ضجت المواقع «الإخوانية» العربية منها وغير العربية، بشجاعةِ أردوغان، لكن ما هي إلا أسابيعَ قليلة حتى أعلن أردوغان عن إطلاق سراح القس الأميركي هرباً من العقوبات الاقتصادية الأميركية بعدَ أن أصبح وضع الليرة في الحضيض، في النتيجة فإن أردوغان عندما يرفع سقفَ التصريحاتِ تحديداً بوجهِ الولاياتِ المتحدة أو «إسرائيل» فهو أمام أحد احتمالين: إما إنه بحاجةٍ لهكذا خطابٍ لإعادةِ إنتاج نفسهِ انتخابياً أمام الحمقى الذين يصدقونهُ، أو للتغطيةِ والتعمية على تنازلٍ ما يقدمه فيطلق مثلَ هذهِ التصريحات كنوعٍ من التحدي المقبول أميركياً طالما أنه يبقيهِ خادمَهم المطيع.
هذا الأمر تكرر هذا الأسبوع عندما أعلن أردوغان أن القوات التركية جاهزه للدخول لمنبج حتى لو أدى هذا الأمر لصدامٍ مع الأميركيين، الفكرة أن أردوغان يريد إقناع الجميع بقدرتهِ على الصِدام مع الأميركيين لكنه لا يريد أن يتحدث عن فرضيةِ أن دخولهُ لمناطق شرقي الفرات لا يتم إلا بإيعازٍ أميركي، أما بالنسبةِ لفرضية التحالف الأميركي التركي حول ما يجري في الشمال السوري فهي أشبه بالنكتةِ السمجة، فهل تريدوننا أن نصدقَ أن الأميركي ينظر لأردوغان كحليف!؟ الفكرة أن أردوغان ذات نفسهِ لازال يلعب بواقعيةٍ على الانقسام الحاصل بين البيت الأبيض والبنتاغون حول مستقبلِ الاحتلال الأميركي لقواعد في الشمال السوري، وبالتالي عادَ أردوغان لعادته القديمة باللعب على التناقضات، وهناك جهتان تحديداً عليهما أن تفكرا بواقعيةٍ حول ما يريده الأميركيون من أردوغان في الشمال السوري هما:
الانفصاليون الأكراد، أولئك الذين تاجروا بدماءِ الأبرياء سابقاً في عفرين ورفضوا دخول الجيش العربي السوري إليها لحمايتها من الغزو التركي، بل إنهم وضعوا شروطاً كانت أشبهَ بأحلام يقظة بالنسبةِ لهم، اليوم ذات السيناريو سيتكرر وعلى هؤلاء أن يتذكروا أن «المتغطي بالأميركيين عريان»، وأن الجيش العربي السوري وحدهُ القادر على حمايتهم ومن بعدها فإن القيادة السورية جاهزة للاستماع لكل المطالب في إطار وحدة سورية واستقلالها، فمن باعكم في عفرين لن يشتريكم في منبج ولا في الرقة، حتى أبناء جلدتكم في الجنوب التركي مستسلمون لقناعتهم بأن أردوغان لديهِ ضوء أخضر أميركي، ولا يقومون بأي تحركٍ هناك وهم بالملايين فلماذا تصرون أنتم أن تكونوا كبش فداء؟!
الروس والإيرانيون معاً، والقضية مرتبطة بسؤالٍ منطقي: هل أردوغان فعلياً كما تصفونهُ شريكٌ حقيقي في إحلال السلام في سورية؟
قد لا يحتاج الأمر الكثيرَ من الشرح لكن لنتذكر أن كل يوم يتأخر فيهِ تحرير إدلب فإننا نعطي الأميركيين مزيداً من القدرة على المناورة وعبر ذات الشخص الذي تعتقدون أنه جزءٌ من الحل، ولعل نظرة بسيطة لما وصل إليهِ حال اتفاق سوتشي الأخير حول المناطق المنزوعة السلاح، سيكرس فرضية أن أردوغان نجحَ عبر اللعب على التناقضات بأن يربح أكثر من فرضية «المناطق الآمنة» التي كان يحلم بها، فماذا ينتظرنا؟
بعد أيامٍ قليلة سيزور وفد مما يسمى «المجلس الوطني الكردي السوري» موسكو بدعوةٍ روسية ويبدو أن الطرح الأساس سيكون نوعاً من الوساطة التي تضمن إمكانيةَ دخول قوات الجيش العربي السوري إلى مناطق وجود المنظمات الانفصالية دون قيدٍ أو شرط، لكن بواقعيةٍ تامة لا يبدو أن الروس يمتلكون أي قدرةٍ على تبديل المعطيات في الواقع الكردي الانفصالي طالما أن هؤلاء مخدرون بالوعود الأميركية، كما أنهم حتى الآن فشلوا بالوصول مع أردوغان إلى نقطةٍ وسط في كل الوعود التي طرحها، ربما يجب أن تكون النتيجة المنطقية هنا هي اللعب على التناقضات وليس محاولة احتواء المتناقضين، فالعالم من حولنا يتبدل لدرجةٍ بات فيها الحديث عن قمةٍ ثلاثيةٍ بين ترامب وملك آل سعود وبنيامين نتنياهو مادةً أساسية للصحافة الأميركية، والأميركي لا يبدو أنه مضطر للإصغاء للدعوات الروسية للحوار بما فيها حولَ مستقبل ما يجري في شرق الفرات، وبمعنى آخر: نحترم مقولة «إلا الحماقة أعيت من يداويها»، لكن هناك نوعٌ من الحماقات سيكون من الحماقة إن فكرنا بمداواتها، بل علينا السعي لتعميقها لأنها الوحيدة التي تقود صاحبها بهدوءٍ نحو الانتحار.
فراس عزيز ديب – الوطن السورية
Discussion about this post