يبدو أن تأكيد فرضية التفجير الارهابي في حادث طائرة الركاب الروسية في سيناء قد حسم خيارات فلاديمير بوتين في حربه ضد التنظيمات المتشددة، وعلى رأسها «الدولة الاسلامية».
وخلال اجتماع في الكرملين، ارتدى بوتين حلة داكنة، والتزم، هو والحضور، بدقيقة صمت تكريما لأرواح ضحايا الطائرة المنكوبة، قبل ان يقول لقادته العسكريين والامنيين إن الحادث هو واحد من أدمى الهجمات في تاريخ روسيا الحديث، ويأمرهم بالبحث عن الارهابيين «اينما اختبأوا»، وبتكثيف الضربات الجوية في سوريا.
ولم تكد ساعات تمضي على هذا الاجتماع، الذي بثه التلفزيون الروسي، حتى ظهر بوتين بين كبار جنرالات الجيش الروسي في مقر قيادة الاركان، ليطّلع منهم على الترجمة العملية لقرار تكثيف الحملة الجوية ضد المسلحين، وخصوصاً في معاقلهم في الرقة ودير الزور، وذلك عبر استخدام القاذفات الاستراتيجية والصواريخ المجنّحة، بالاضافة الى تكثيف الغارات الجوية الاخرى، التي وفرت، بحسب البلاغات العسكرية التي قدّمت لـ«الرفيق القائد الاعلى»، غطاءً جوياً فعالاً للعمليات البرية التي يقوم بها الجيش السوري على مساحات واسعة تمتد من ريف دمشق وتدمر، مروراً بحمص وادلب وريف اللاذقية، وصولاً الى حلب.
وبالاضافة الى ذلك، وفي خضم انشغال فرنسا ببحث سبل الرد على هجمات باريس، أمر بوتين البحرية الروسية في شرق البحر المتوسط بتنسيق أعمالها في البحر والجو مع البحرية الفرنسية.
وفي تطوّر آخر، أعلن وزير الخارجية الأميركي جون كيري، أمس، أن «الحدود الكاملة لشمال سوريا أغلقت 75 في المئة منها الآن، ونحن مقبلون على عملية مع الأتراك لإغلاق 98 كيلومترا متبقية». ويبدو ان كيري يقصد بذلك، المنطقة الممتدة من مدينة جرابلس إلى مدينة مارع شمال حلب، والتي يتمركز فيها الآن «داعش»، وهي المنطقة الحدودية الوحيدة «الداعشية» التي تحاذي الحدود التركية، ويبلغ طولها مئة كيلومتر تقريباً، مع الاشارة الى ان هذه الرقعة الجغرافية كانت تريد تركيا، ولا تزال، أن تجعلها منطقة عازلة لتجميع اللاجئين السوريين فيها بحسب المبرر العلني.
ومن جهة ثانية، اعتبر كيري ان سوريا قد تبدأ مرحلة «انتقال سياسي كبير» في غضون «اسابيع» بين النظام والمعارضة، وذلك اثر التسوية الدولية التي تم التوصل اليها في ختام مفاوضات فيينا.
وبعد 17 يوماً على سقوط طائرة الركاب الروسية في سيناء، حسم جهاز الامن الفدرالي الروسي فرضية العمل الارهابي، بما يؤكد، عملياً، تبنّي تنظيم «الدولة الاسلامية» للهجوم.
وقال رئيس جهاز الامن الفدرالي الروسي الكسندر بورتنيكوف، خلال اجتماع مع بوتين، انه «بعد فحص المتعلقات الشخصية والامتعة واجزاء من الطائرة الروسية التي تحطمت في مصر في 31 تشرين الاول الماضي، كشف خبراؤنا عن وجود آثار لمادة متفجرة. وبحسب الخبراء، فإنّ عبوة ناسفة يدوية الصنع تحتوي على كيلوغرام من مادة (تي ان تي) تم زرعها على متن الطائرة، ما ادى الى تحطمها في الهواء، وهو ما يفسر تناثر جسم الطائرة على هذه المساحة الواسعة من الارض».
واضاف «استطيع الآن ان اؤكد انها كانت عملية ارهابية».
وأعلن جهاز الأمن الروسي عن مكافأة مالية قدرها 50 مليون دولار لمن يساعد في إلقاء القبض على المسؤولين عن تحطم الطائرة.
لكن السلطات المصرية رفضت تبني الاستنتاج الروسي، برغم تأكيدها انها ستأخذ في الحسبان ما خلص اليه المحققون الامنيون الروس.
وخلال اجتماع الكرملين، قال بوتين، بعد استماعه الى بورتنيكوف، «نحن لن نمسح دموعنا من ارواحنا وقلوبنا، ستظل هذه المأساة معنا الى الابد، ولكن الحزن لن يمنعنا من ايجاد المجرمين ومعاقبتهم، فهذه الجريمة لن تسقط بالتقادم، ونحن في حاجة لمعرفة من نفذوها، وسنبحث عنهم في اي مكان… اينما كانوا يختبئون سنجدهم، وفي اي مكان في الارض سنحاسبهم».
واكد بوتين ان روسيا ستصعد ضرباتها في سوريا بعد اسقاط طائرة الركاب الروسية، موضحاً «نحن نأمل من خلال هذه العملية ان يتم ايجاد من كان يقف وراء عملية اسقاط الطائرة. وسنعمل ضمن اطار المادة 51 من ميثاق الامم المتحدة، والتي تمنحنا الحق بالدفاع عن انفسنا».
وتنص المادة 51 على أنه «ليس في هذا الميثاق ما يضعف أو ينتقص الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن أنفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء الأمم المتحدة، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدولي».
وبدا ان حسم فرضية التفجير الارهابي لطائرة الركاب الروسية قد احدث تغييراً في الاستراتيجية الروسية لمواجهة «داعش»، بحسب ما قال وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وهو ما تبدّى في الاعلان عن تبني خطة جديدة للعمليات العسكرية في سوريا، وتكثيف الهجمات على مواقع المجموعات الارهابية، بحسب ما اكد القادة العسكريون الروس خلال اجتماع عقد في مقر قيادة الاركان في وزارة الدفاع الروسية، بحضور بوتين.
وخلال الاجتماع العسكري، قال شويغو انه «تمت زيادة عدد الطائرات الروسية في قاعدة حميميم، لتنضم اليها طائرات من طراز (سو-27) و(سو-37)، بمساندة من طائرات «توبوليف» بعيدة المدى.
واضاف «حتى الساعة الخامسة والنصف (صباحاً)، تم تنفيذ ضربات جوية على الرقة ودير الزور. وحتى الساعة التاسعة والاربعين دقيقة قامت طائرات (تو-160) و(تو-195) باستهداف مواقع لـ(داعش) في محافظة حلب، وكل الضربات اصابت اهدافها».
واضاف «خلال الليل (امس) يُخطط لتنفيذ 127 طلعة جوية ضد 206 اهداف، وقد تم خلال هذه الغارات القضاء على 140 موقعاً للمجموعات المسلحة… وخلال الفترة المقبلة، سيتم العمل وفق الخطة (الجديدة) المقدمة، وكل المعدات والوسائل المطلوبة متوافرة لدينا».
من جهته، قدّم رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية الجنرال فاليري غيراسيموف تقريراً عسكرياً لبوتين بصفته «الرفيق القائد الاعلى»، وجاء فيه: «بموجب تعليماتكم، فإن طائرات القتال لقواتنا المسلحة تقوم بتوجيه ضربات للتنظيمات الارهابية في اراضي سوريا، ابتداءً من 30 ايلول، وقد تم تنفيذ اربعة الاف و119 ضربة صاروخية، وباستخدام قنابل، على المواقع الدفاعية ومراكز القيادة للارهابيين، حيث تم تدمير 54 مصنعاً لانتاج الذخائر والمواد المتفجرة».
واضاف غيراسيموف ان «عمليات الطيران الحربي الروسي مكّنت الجيش السوري من الانتقال الى الهجوم في جبهة واسعة من حلب الى ادلب وحمص، لتحرير اراض شاسعة من التنظيمات الارهابية».
واضاف «تنفيذاً لتعليماتكم بتعزيز الضربات على مواقع (داعش) وغيره من التنظيمات الارهابية، وضعت هيئة الاركان العامة خطة جديدة لعمليات القوات الجوية، تأخذ في الاعتبار توجيه ضربات اضافية، باستخدام 25 طائرة اضافية من اراضي روسيا الاتحادية، ومختلف انواع الطائرات والمقاتلات الاخرى».
واشار غيراسيموف الى انه «بهدف تحديد احداثيات دقيقة للاهداف يستمر تعزيز الاستطلاع العسكري في منطقة الشرق الاوسط، حيث تشارك في هذه العملية 10 اقمار اصطناعية، بما في ذلك اقمار مدنية، وقد تمت اعادة توجيه المسارات المدارية لهذه الاقمار، لتكثيف التصوير ومسح اراضي سوريا من الفضاء الكوني. كما يتم استخدام ايضاً اقمار اصطناعية موجودة في الاحتياط العملياتي».
ولفت غيراسيموف الى انه «اثناء الضربة الجوية المكثفة اليوم (امس)، تم استخدام 34 صاروخاً مجنحاً، وجرى تدمير 14 موقعاً مهماً للارهابيين».
واشار الى ان «الطائرات في مطار حميميم نفذت 65 طلعة تم خلالها تدمير ستة مراكز قيادة للارهابيين وثمانية مستودعات ذخائر واربعة معسكرات تدريب وستة مستودعات للمحروقات»، لافتاً الى ان طائرات «سو-34» دمرت قافلتين لنقل المحروقات، و50 عربة شحن، وانه تم في الاجمال تدمير 410 صهاريج لنقل المحروقات.
من جهته، قال قائد الطيران الروسي بعيد المدى أناتولي جيخاريف، في مداخلة عبر دائرة الفيديو المغلقة، ان طائراته بدأت بتوجيه ضربات جوية على مواقع الارهابيين في سوريا، وذلك باستخدام جميع الطائرات المتوافرة في تسليح هذه القوات، بما في ذلك طائرات «تو 95» و «تو 60»، بموجب «خطة لتدمير الاهداف المعادية».
واشار الى ان طائرات «تو-22» قطعت مسافة 5400 كيلومتر، في حين قطعت طائرات «تو-60» و «تو 95» مسافة اكثر من 6 آلاف كيلومتر.
بدوره، قال العقيد البحري اوليغ كريفاروغ، في مداخلة مباشرة من الطراد «موسكو» قبالة السواحل السورية، ان القطعة البحرية تعمل في اطار «مهمة نقل المعدات القتالية الى سوريا، وحماية القوات الروسية في الاراضي السورية»، مشيراً الى ان الطراد «قطع عشرة الاف ميل بحري، ويقوم بحماية 26 سفينة لنقل الشحنات القتالية الى موانئ سوريا». واضاف انه «تمت مراقبة 53 سفينة وعشرات الطلعات لطائرات اجنبية في هذه المنطقة، ونقوم برصد الاحوال تحت الماء وفوق الماء لتهيئة الظروف لتنفيذ مهمات قتالية في سوريا».
وتوجّه بوتين الى «الرفيق اوليغ» قائلاً: «ستقترب من منطقة تواجدكم مجموعة سفن فرنسية، وعلى رأسها حاملة طائرات، ولا بد من اقامة اتصال مباشر مع هذه السفن الفرنسية، والعمل معها كحلفاء، وقد تلقى رئيس هيئة الأركان العامة ووزير الدفاع توجيهاً بهذا الخصوص، وسيكون من الضروري تطوير خطة عمليات مشتركة في البحر والجو على حد سواء».
وختم بوتين متوجهاً الى القادة العسكريين: «رفاقي الاعزاء، انكم من خلال توجيه الضربات للجماعات الارهابية في اراضي سوريا، انما تدافعون عن روسيا ومواطنيها، اشكركم على ذلك، واتمنى لكم النجاح».
ولا يوجد تنسيق في العمليات بين باريس وموسكو، لكن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند دعا الى تشكيل تحالف دولي ضد المتشددين عقب هجمات باريس، ليل الجمعة الماضي.
واعلن الكرملين إن بوتين تحدث هاتفيا الى هولاند، وأمر البحرية الروسية بفتح قنوات اتصال مع البحرية الفرنسية وحاملة الطائرات «شارل ديغول».
وسيزور هولاند موسكو في 26 تشرين الثاني الحالي، وذلك بعد يومين من لقاء مقرر بين الرئيس الفرنسي والرئيس الاميركي باراك اوباما في واشنطن لتنسيق الحملة ضد «الدولة الإسلامية».
وقال متحدث رئاسي فرنسي إن هولاند تحدث هاتفيا أيضاً إلى الرئيس الإيراني حسن روحاني الذي أيد الدعوات الى تشكيل جبهة موحدة ضد المتشددين.
المصدر جريدة السفير
Discussion about this post