تسنّى لي قبل أيام أن أشارك في تجربةٍ غير عادية. فقد دعت رابطة النواب السابقين أعضاءها الى اجتماعٍ للتباحث في قضايا بل تحديات، تواجه لبنان في هذه الآونة. لبّى الدعوة أكثر من أربعين عضواً، شارك جلّهم في المناقشة بحيوية لافتة.
الأعضاء المشاركون بعضهم أفذاذ وبعضهم الآخر أتباع. الأفذاذ قام بعضهم بأعمال تشريعية مرموقة ومهام رقابية حساسة، وتولى بعضهم الآخر رئاسة لجان برلمانية فاعلة. الأتباع التزم بعضهم بأمانة سياسات ورغبات رؤساء التكتلات البرلمانية التي انتموا اليها، ولزم بعضهم الآخر الصمت معظمَ سنيّ ولايته النيابية فلا أضرّ ولم ينفع أحداً.
جدول الأعمال مختصر في موضوعاته البالغة الأهمية، لكنه طويل بما تتطلّبه من وقت دراستها ومناقشتها والخروج منها بتوصيات. الموضوعات أربعة : الحكومة التي طال انتظار تأليفها ، الفساد، الكهرباء، الوضع الاقتصادي. صال المتحدثون وجالوا، بادئ الأمر، بالموضوعات الأربعة كلها الأمر الذي استهلك وقتاً طويلاً قبل أن تتنبّه إدارة الإجتماع الى أنّ المتحدثين كثر والوقت الإجمالي المتاح لا يسمح بسخاء غير مقبول في استهلاكه، فكان أن حُدّد لكلّ متحدث خمس دقائق فقط.
تدخلات المتحدّثين كان بعضها غثّاً وبعضها الآخر سميناً. ذلك أنّ بعضاً من الأعضاء كان تولّى مسؤوليات برلمانية أو وزارية تميّز خلالها بأنشطة وإنجازات مميّزة. غير أنّ الوقت المحدّد المتاح للمتحدثين أصحاب التجارب والإنجازات المميّزة كان محدوداً ما أدّى بدوره الى محدوديةٍ في العرض والشرح والخلوص إلى استناجات.
عندما جاء دوري في الكلام اعترضتُ على النهج المتّبع في تحديد جدول الأعمال وفي مناقشة موضوعاته. قلتُ إنّ كلاٍّ من الموضوعات الأربعة المطروحة مهمّ وخطير ويحتاج جلسةً خاصة به ليستوفي حقه من الدرس والتمحيص واستخلاص النتائج. لذلك اقترحتُ نهجاً مغايراً: أن تقوم الهيئة الإدارية للرابطة، بالتوافق، على تحديد القضايا والموضوعات الأكثر أهمية وخطورة من غيرها وتقوم بتأليف لجان تخصصية من الأعضاء الراغبين، وتعطى وقتاً محدّداً لدرسها بالتعاون مع اختصاصيين من خارج أعضائها، إذا اقتضى الامر، ثم تحيل دراستها وتوصياتها إلى الهيئة الإدارية التي تقوم بدعوة الهيئة العامة لرابطة النواب السابقين لمناقشة الدراسة المقدّمة لهم واستخلاص التوصيات المناسبة ووضعها في صيغة مذكرةٍ يصار إلى إبلاغها من رئاسات الجمهورية والحكومة ومجلس النواب، كما إلى المراجع السياسية والاقتصادية والمهنية ذات الصلة، ولا بأس أيضاً في عقد مؤتمر صحافي في مجلس النواب بغية تعميم التوصيات على مختلف أوساط الرأي العام بغية إشراك القوى الحية في المجتمع في المناقشات والجهود الرامية الى حلّ المشكلات والمعضلات المشكو منها.
قلتُ: بهذه المقاربة للقضايا والتحديات التي تواجه البلاد في هذه الآونة، يُسهم النواب السابقون في توعية الناس، مسؤولين ومواطنين، وفي إشراكهم بمعالجة قضايا الشأن العام والخلوص تالياً الى نتائج إيجابية. أجل، بهذه المقاربة يتحوّل النواب السابقون، لا سيما المقتدرين بينهم، سبّاقين في اجتراح الحلول والإصلاحات اللازمة.
إذ أبدت أدارة الاجتماع موافقة على هذه المقاربة وأعلنت أنها باشرت في اعتمادها قبل بدء المناقشات، انتقلتُ الى مناقشة الموضوع الأول والأخطر في جدول الأعمال وهو الحكومة التي مضى نحو أربعة أشهر ولمّا تؤلف بعد، فقلت إنني اتفق مع المتحدثين الذين صارحوا الحضور بأن لا دولة في لبنان بعضهم قال إنّ لدينا مزرعة يتقاسم خيراتها زعماء الطوائف! لكنّي لا اتفق مع الذين بالغوا في يأسهم الى درجة القول: «فالج لا تعالج»! صحيح انّ لبناء الدولة شروطاً ومناهج تتطلب أكثر بكثير من مجرد تأليف حكومةٍ طال انتظارها، لكن التعجيل في تأليف حكومة ائتلافية مقتدرة بات استحقاقاً وطنياً ضاغطاً وشرطاً لازماً لوقف الانهيار السياسي والاجتماعي والأمني الماثل.
أجل، المطلوب المبادرة، بلا إبطاء، الى وقف الإنهيار المتدرّج الناجم عن تردّي الاقتصاد، وترهّل الدولة أو ما يسمّى مجازاً دولة! وتعاظم التحديات الخارجية العدوانية وذلك بتأليف حكومة ائتلافية وطنية من شخصيات قيادية واختصاصيين مقتدرين تنهض بمهمة مواجهة التحديات والمخاطر سالفة الذكر بالتعاون مع الأطراف الجدّية والجادة في المجتمع المدني من أحزاب وهيئات ومؤسسات وتجمّعات.
وقفُ الإنهيار شرط للمبادرة المتوجّبة للنهوض تالياً بالمهمة الوطنية والاستراتيجية الاهم والأخطر: بناء دولة مدنية ديمقراطية على أسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية والإبداع الحضاري.
القوى الحيّة مدعوة إلى أن تكون هي السبّاقة في هذا المسار.
عصام نعمان ـ البناء
Discussion about this post