تشي اللكنة الصادرة عن خطاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي ألقاه في أنقرة يوم الثلاثاء الماضي، عن تحفز تركي وشيك لقفزة جديدة تحمل في ترتيبها الرقم 4 منذ بدء التدخل العسكري التركي في سورية في آب من عام 2016 الذي جرى في أعقاب المصالحة التركية الروسية مطلع هذا الشهر الأخير، ومثيلاتها الثلاث كانت قد سبقت كلاً من «درع الفرات» و«غصن الزيتون» و«نبع السلام»، أما الرابعة الراهنة فهي تمهيد، كما يبدو، لتكرار واقع في شمال إدلب شبيه بذاك الذي أفرزته القفزة التركية الثالثة ما بين رأس العين وتل أبيض في شهر تشرين الأول الماضي.
كانت لغة أردوغان التي استخدمها تبدي تشدداً في ملفي سورية وليبيا على حد سواء، لكن اللافت هو أن ذلك الخطاب كان قد جاء بعد يومين فقط من اللقاء الذي جمع رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك مع رئيس الاستخبارات التركية حقان فيدان في موسكو 12 الشهر الجاري برعاية روسية مما يؤشر، بل يمكن أن يرجح، أن ذلك اللقاء قد فشل أو على الأقل فإن طرفيه لم يستطيعا إيجاد نقاط تلاق مشتركة حتى في الحدود الدنيا من التلاقيات، ومن الممكن النظر إلى قول أردوغان في ذلك الخطاب: «إذا استمرت خروقات النار في إدلب فإننا نحن الذين سنتصدى لها هذه المرة»، على أنه مؤشر على اكتمال التحضيرات التي تهدف إلى إنشاء «منطقة آمنة» جديدة في شمال إدلب وبضوء أخضر روسي أيضاً، بينما يمكن اعتبار قول أردوغان يوم الجمعة الماضي 17 الشهر الجاري الذي جاء فيه: «إن بلاده سوف تضع ملف إدلب على أجندة اجتماع برلين الخاص بالأزمة الليبية الذي سينعقد يوم الأحد 19 الشهر الجاري» على أنه محاولة لتحشيد إقليمي ودولي داعم لخطوة من هذا النوع، فالاجتماع سيضم قوى عديدة كالولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وايطاليا والصين ومصر والإمارات العربية إضافة إلى تركيا وألمانيا، ناهيك عن تمثيل لمنظمات مهمة مثل الأمم المتحدة والاتحادين الأوروبي والأفريقي في ذلك الاجتماع، ولذا فإن طرح ملف إدلب في محفل كهذا يبدو أشبه بمناورة تركية متعددة الأغراض من بينها، إلى جانب التحشيد للمرامي التركية، المقايضة للحصول على مكاسب أكبر، لكن المؤكد هو أن ذلك الطرح ما كان يمكن له أن يحدث لولا وجود قبول روسي به أيضاً، ولولا حدوث تلاقيات باتت أوسع من سابقاتها بين أنقرة وواشنطن في أعقاب لقاء المبعوث الأميركي الخاص بالأزمة السورية جيمس جيفري مع المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن في 12 الشهر الجاري، والراجح هو أن تلك التلاقيات قد تماهت في الطلب الأهم الذي جاء به جيفري والذي تمثل بوجوب أحداث تغيير سياسي كبير في بنية الحكم في سورية، الأمر الذي يفسر الآن الضغوط الكبيرة التي يشهدها ملف «اللجنة الدستورية» وضرورة انعقادها في شهر شباط المقبل بعد الاتفاق على تحديد جدول زمني لعمل تلك اللجنة، والفعل من حيث النتيجة ينطلق من مقدمة عنوانها أن حدوث اختراقات على صعيد إنجاز الدستور السوري المفترض من شأنها أن تكون «مثمرة» أكثر، وبما لا يقاس، عما يمكن أن يكون عليه الحال لو عادت إدلب إلى حضن السيادة السورية، وفي ذاك فإن إعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يوم الجمعة الماضي بأن المبعوث الأممي غير بيدرسون سيزور موسكو، وكذا دمشق، في وقت قريب، يعني كخلاصة استجابة موسكو لضغوط تتعرض لها في هذا السياق دون أن يعني ذلك قبولها نهائيا بمبدأ تحديد جدول زمني لعمل اللجنة سابقة الذكر.
تبدو عملية الموازنة لعلاقة موسكو بكل من دمشق وأنقرة وكأنها قد دخلت في طور من النوع شديد التعقيد، وبمعنى آخر فإن موسكو تبدو مضطرة، في ظل حالة احتياج للأخيرة وتحالف مع الأولى، للحفاظ على هامش مناورة جامع للحالتين على الرغم من تناقضهما بفعل النزعة الهجومية التركية في سورية ومن ثم تمدداتها الأخيرة في ليبيا، والتي خرجت على الأغلب عن الحسابات الروسية، بمعنى أن موسكو التي أطلقت العنان لتثقيل الدور التركي في سورية بدءاً من آب 2016 بعدما كان قد قارب على التلاشي مع انطلاق «عاصفة السوخوي» أيلول من العام 2015، لم تكن مدركة تماماً لحدود «الزئبقية» التي يمكن أن يمارسها الأتراك في علاقتهم بكل من الروس والأميركيين، وهي الحالة التي وضعت أنقرة في موضع المستفيد الأول بفعل حالة الاحتياج المتزايد لها من كلا الاثنين، وهذه الحالة تبدو أنقرة ماضية فيها نحو اتخاذ وضعية «الأرض المنخفضة» بدرجة أكبر مما سبق وعبرها تأمل أن تمكنها الوضعية السابقة من جلب كم أكبر من المياه المحيطة.
وفق المعطيات الراهنة، فإن السيناريوهات المحتملة في إدلب تبدو عديدة، لكن الراجح فيها أن تسير الأمور وفق أحد سيناريوهين اثنين، الأول هو أن تذهب التوافقات التركية الروسية إلى قبول أنقرة بتنفيذ جزئي لاتفاق سوتشي أيلول 2018 الخاص بإدلب، والجزئية هنا تتضمن سيطرة الجيش السوري على الطرقات الدولية التي تربط حلب بكل من اللاذقية وحمص وحماة، في مقابل أن تندفع أنقرة نحو السيطرة على رقعة غير معروفة الأبعاد في شمال إدلب بما يشبه «منطقة آمنة» ثانية شبيهة بتلك التي استولدتها عملية «نبع السلام»، والسيناريو الثاني هو أن تذهب التوافقات نحو سيطرة الجيش السوري على القسم الجنوبي من المحافظة بالتزامن مع قبول روسي، يلقى موافقة أميركية أيضا تنطلق واشنطن فيها من أن وضعاً كهذا هو من النوع الخادم لسياقات «قانون قيصر»، بسيطرة تركية على القسم الشمالي منها، وهو احتمال وارد، بل أيضاً مرجح حيث يمكن أن يشكل وضع كهذا، ضغوطاً ثقيلة على دمشق في مواجهة التحدي الأكبر راهنا والمتمثل بطريقة التعاطي مع ملف «اللجنة الدستورية» التي إن انعقدت في شهر شباط المقبل فإن ذلك سيعني أن توافقات كبرى دولية وإقليمية قد حدثت، الأمر الذي سيؤدي بالضرورة إلى صمود هدنة إدلب التي أعلن عنها في 7 الشهر الجاري، بعد أن تكون أنقرة قد قبلت بمهلة الشهرين، التي ذكرتها تسريبات إعلامية روسية، للقيام بخطوات عملية من نوع فتح الطرق الدولية ومعالجة ملف «هيئة تحرير الشام»، فيما عدا ذلك فإن احتمالات التصعيد ستصبح هي الأكثر رجحاناً، بانتظار أن تتضح الصورة عبر مخرجات اجتماع برلين.
عبد المنعم علي عيسى – الوطن السورية