بعد ثورة شعبية ضخمة أنطلقت في فبراير 2019م نجحت في الأطاحة بعبد العزيز بوتفليقة عن حكم الجزائر، وعلى أثرها بات رئيس الأركان أحمد قايد صالح رحمه الله الرجل الأول في البلاد، كي يدخل في مواجهة شرسة في ظاهرها حرب ضد نظام سابق فاسد يتزعمه شقيق الرئيس الا وهو سعيد بوتفليقة، ولكن فى حقيقتها كانت حرب ضد الدولة الفرنسية عبر عملائها داخل الجزائر، وهم من أطلق عليهم قايد صالح أسم “العصابة”، تدخل الأن الدولة الجزائرية مرحلة جديدة من عمرها بعد تولي عبد المجيد تبون الحكم.
ومنذ الأيام الأولى لتولي عبد المجيد تبون رئاسة الدولة الجزائرية وهو عقد العزم على الحضور في ملفات الجوار كليبيا ومالي، وأنتظرنا كيف ستكون بوصلة عبد المجيد تبون تجاه ليبيا، ولكن وجدنا أن الأمر لم يختلف كثيرا عن بوصلة عبد العزيز بوتفليقة أن لم تكن البوصلة أتجهت للاسوأ، بعد أن أقترب المشير خليفة حفتر من تحرير العاصمة طرابلس، وشاهدنا كيف صرح رئيس وزراء ايطاليا جوزيبي كونتي من قلب الجزائر بعد لقائه بالرئيس الجزائري عن أحتمالية نشر قوات أوروبية في ليبيا بحجة حفظ السلام هناك، فأي سلام سيأتي ممن دمروا ليبيا في 2011م ؟!
وهنا يطرح السؤال نفسه لماذا الجزائر السابقة والحالية (بوتفليقة وتبون) والقادمة أيضا ترفض التعاون مع المشير خليفة حفتر ؟ بل وكثيرا ما هددته في حال تحرير غرب ليبيا، ولكم الأجابة التفصيلية :
أولا : الجزائر ومنذ بداية الحرب على ليبيا في 2011م وهي فضلت سقوط ليبيا ودخولها في نفق الفوضى لأن هذا يمنح الجزائر السيطرة التامة على حوض غدامس النفطي الواقع على الحدود الليبية الجزائرية، ومن هنا رأت في سيطرة الجيش على كامل التراب الليبي خطر على مصالحها في حوض غدامس النفطي، وهو الأمر الذي تجلى مؤخرا عندما أرسلت الجزائر شحنات غذائية أكثر من مئة طن كدفعة ثانية من المساعدات لليبيين.
وفي الحقيقة كل ما قدمته الجزائر من مساعدات لليبيا مؤخرا كان مقتصرا على مدينة غدامس فقط دون غيرها من المدن الليبية، مع العلم أن لا غدامس أو غيرها من المدن الليبية واقع تحت حصار يسبب لها نقص في الغذاء أو غيره، وفي الأصل غدامس خارج ساحة الصراع بين الجيش الوطني الليبي ومليشيات حكومة الوفاق الأساس.
ثانيا : للاعلام القطري تأثير رهيب في الرأي العام الجزائري، فتبقى قناة الجزيرة القطرية المناهضة لحفتر ولمن يدعمه وفي المقدمة مصر والإمارات هي الأكثر مشاهدة ومتابعة من الشعب الجزائري على مستوى القنوات الأخبارية، ولذلك المزاج الشعبي فى الجزائر لا يميل لدولة الإمارات العربية المتحدة، وكذلك مع مصر برغم تاريخ النضال والكفاح المشترك بينهم.
ثالثا : أن كانت المشكلة في تونس هي الإسلاميين وقيادات أخوان تونس وعلى رأسهم راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة والحاكم الفعلي لتونس، فالمشكلة في الجزائر ليست بالإسلاميين الذين هم بالطبع رافضين لحفتر ومن يدعمه أيضا، فهم ليسوا في مؤسسات صنع القرار الجزائري، ولكن المشكلة في شخصية الدولة الجزائرية نفسها، التى ترى في أي أنتصار للجيش الوطني الليبي هو أنتصار للمنافسين لها، ومن هنا ترفض الجزائر أن يصل المشير خليفة حفتر بجنوده الى الحدود الجزائرية عبر تحرير طرابلس، كي لا تكون مصر على الحدود الجزائرية.
فشخصية الدولة الجزائرية لديها حساسية تاريخية تجاه ثلاث دول، وهم المستعمر القديم (فرنسا)، والجار اللدود (المغرب)، وعقدة الزعامة (مصر)، ونضيف لهم مؤخرا منافسها الأقليمي الجديد (الإمارات).
فمنذ إنطلاق عملية الكرامة في مايو 2014م بقيادة المشير خليفة حفتر لتحرير ليبيا من الإرهابيين وصبيان الناتو، والجزائر تنظر للمشير خليفة حفتر على أنه أمير حرب وتتعامل معه بذلك المفهوم، ولذلك حفتر لم يهدد بنقل الحرب الى الداخل الجزائري بالعام قبل الماضي من فراغ.
فما كان لشخص مثل رجب طيب أردوغان أن يزور الجزائر للمرة الثانية (26يناير الجاري) في أقل من شهر من أجل الملف الليبي دون غيره، الا بعد أن تأكد أن الجزائر لن تكون داعمة للجيش الوطني الليبي، وأنها ستكون ثغرة جديدة أمامه لاختراق الجسد العربي.
وحقيقة الأمر أستمرار الفوضى في ليبيا وهو الهدف الذى تعمل عليه كل من قطر وتركيا في المقام الأول ومن قبلهم بريطانيا التى تحرك تلك الأدوات وراء الستار بينما تأتي أيطاليا في ذيل ذلك المحور، لن يكون في مصلحة الدولة الجزائرية عامة ونظام عبد المجيد تبون خاصة، ومن ينظر للوضع الداخلي الجزائري سيعلم ذلك، فالعديد من أبناء الجزائر يروا أن عبد المجيد تبون لا يمثلهم ولا يمثل ثورتهم، وأنه أتى عبر أتفاق سري مع المؤسسة العسكرية في عهد رئيس الأركان الراحل أحمد قايد صالح الذى عبر بالدولة الجزائرية من النفق المظلم، دون أن تسقط نقطة دماء واحدة خلال ثورة أستمرت مظاهراتها الأسبوعية لأكثر من 10 شهور.
وهي المظاهرات التى كانت تطالب أول الأمر برحيل بوتفليقة، وبعد رحيله طالبت بسرعة إجراء الإنتخابات الرئاسية متهمين قايد صالح برغبته فى الإستئثار بالسلطة، وبعد وفاة قايد صالح وإجراء الإنتخابات الرئاسية، أستمرت المظاهرات مرددين “بعدم رغبتهم في رئيس ذو خلفية عسكرية” مع العلم أن عبد المجيد تبون لم يكن يوما رجل عسكري.
وهنا يتضح أن هناك تيار لن يسمح للشارع الجزائري بأن يهدأ ولو أسبوع واحد فقط، وأن تلك المظاهرات ستستمر الى أن تقوم الرئاسة الجزائرية بمساومة ذلك التيار أو شن الحرب عليه، وهو طبعا تيار مكون من الجيل الجديد من المراهقين سياسيا وخلفهم الإخوان المسلمون.
وهنا ستبقى شرعية عبد المجيد تبون مطعون فيها، وسيكون هذا المشهد نقطة الضعف الأكبر في قلب الدولة الجزائرية، فشوكة الإسلام السياسي في الجزائر قوية، وهم كغيرهم من اقرانهم ينتظروا الفرصة للانقضاض على الدولة، ومن يصدق أن هولاء أتعظوا من العشرية السوداء فهو واهم.
كما أن الوضع الأمني بجنوب الجزائر كدول النيجر ومالي يشير للخطر الشديد هناك، بعد أن صارت أرضهم نقاط لتجمع الإرهابيين، قبل أن تتحرك بعض المجموعات مخترقة حدود الدول المطلة شمالا كالجزائر وليبيا، كي تصبح النيجر ومالي معبر للدواعش القادمين من نيجيريا، وهو أمر يحمل خطورة شديدة مما يبشر بأن الجزائر قد تكون مقبلة على موعد مع حرب شرسة ضد الإرهاب العابر للقارات.
أخيراً وليس آخراً نكتب ذلك المقال بشديد من الأسى، نكتب ذلك المقال ونحن نُمنّي أنفسنا أن نرى في الغد جزائر نوفمبر .. جزائر الثورة.. جزائر العروبة.
ان نرى جزائر بن باديس (جزائر الإسلام) وليس جزائر باريس (جزائر العصبابة)
فأن لم تساعد الجزائر القوات المسلحة العربية الليبية في محاربة الإرهاب اليوم، فسينتصر الإرهاب في الجزائر نفسها غدا.
فادي عيد وهيب
الباحث والمحلل السياسى بشئون الشرق الاوسط وشمال افريقيا