قد لا يكون السعي ضرورياً في هذه العجالة لمحاولة إثبات عمق وتجذر العلاقة القائمة بين دمشق وموسكو، والتي تمتد لأكثر من نصف “دزينة” من العقود تناوبت فيها على هذه الأخيرة العديد من الأنظمة المتباينة في إيديولوجياتها ورؤاها، إلا أن تلك العلاقة ظلت حجر زاوية بالنسبة لروسيا على امتداد المنطقة برمتها، والمؤكد أن هناك الكثير مما قيل في أسباب تلك المتانة التي تبدت عليها، فمن قائل بأن مرد هذه الأخيرة إنما “يعود إلى حلم روسي قديم بالوصول إلى السواحل الدافئة التي تنتمي الشواطئ السورية إليها”، إلى قائل ارتأى أن “مردها يعود إلى مصالح اقتصادية ليست صرفة لكنها مشوبة بتلاوين أخرى جنباً إلى جنب مع الجغرافيا السياسية”، لكن ما أظهرته العلاقة المديدة بين البلدين يبين أن السبب الرئيس في تلك المتانة -كما نرى- يعود بالدرجة الأولى لدوافع جيوسياسية وأخرى جيوبوليتكية، حيث الأمران كفيلان بإبعاد عوامل المنافع أو المصالح الآنية إلى ترتيب بعيد عن الدرجات الأولى، من دون أن يعني ذلك غياباً تاماً لهذين الأخيرين.
كانت المحطة الأولى في تطور العلاقة الروسية- السورية ما بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة العربية برمتها بدءاً من ربيع العام 2011 فصاعداً، قد جاءت في زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التي قام بها لدمشق في شباط 2012، ومن المؤكد أن تلك الزيارة كانت حجر الأساس في المحطة الثانية التي مثلتها عملية “عاصفة السوخوي” التي انطلقت أواخر أيلول 2015 لدعم الجيش العربي السوري في مواجهة الإرهاب، لتتوج تلك المحطات بالثالثة التي جاءت في أيلول الجاري حيث استضافت دمشق وفداً روسياً كانت تركيبته توحي بالكثير، والزيارة من حيث النتيجة كانت تعني إطلاقاً لمرحلة جديدة مختلفة في طبيعتها وفي استراتيجياتها تبعاً للتطورات التي ساقتها الأحداث المتسارعة على الساحة السورية وفي محيطيها الإقليمي والدولي.
ومن المؤكد أن موسكو أرادت القول عبر زيارة وفدها سابق الذكر أنها قررت زيادة وتيرة الدعم المقدم للحكومة السورية بشتى صنوف هذا الأخير في مواجهتها للعديد من التحديات التي برزت في المرحلة الأخيرة، وهذا الدعم، كما تراه موسكو، يحتاج إلى درجة عالية من التنسيق بين البلدين، وهو يأخذ بعين الاعتبار العاملين الإقليمي والدولي، ربطاً بالتطورات الحاصلة على الساحة السورية والتي يمثل ملفا الجزيرة السورية وإدلب عقدتيها الأبرز. .
وعلى الرغم من أن ما تسرب عن تلك المحادثات كان قليلاً بالنظر إلى حجمها وكذا حجم الملفات التي تطرقت إليها، إلا أن ذاك القليل كان كافياً لرسم صورة كافية عن طبيعة المرحلة المقبلة التي ستحمل في طياتها الكثير على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولربما يصح هنا اختصار أبرز ذلك القليل، بل ووضعه عنواناً أساسياً لتلك الزيارة، عبر ما جاء في تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم بحضور نائب رئيس الوزراء الروسي يوري بوريسوف، عندما قال: الانتخابات الرئاسية السورية التي ستجري في تموز من العام المقبل هي شأن سيادي سوري، ولا جدول زمنياً للإصلاحات الدستورية التي يجب أن يظل سقفها الزمني مفتوحاً، حيث حرق المراحل يعني هنا هدماً بمعول الإصلاح.
عبد المنعم علي عيسى-تشرين