لا نستطيع إرسال مركبةٍ للمشي على سطح القمر، ولا حتى الدخولِ في السجالِ الراقي عن إمكانية تحقيقِ هذا الإنجاز من عدمهِ، فلماذا لا يسير ولي العهد الـسعودي محمد بن سلمان فوق سطح الكعبة المشرفة ونترك لأمةِ المليار فتحَ نقاشاتٍ وسجالات حول جوازِ هذا الأمر من عدمهِ، تحديداً عندما يصبح حدثاً كهذا فرصةً لتصفيةِ الحساباتِ بين أولئك الذين يظنون أن اللـه لم يهدِ سواهم؟
بارعون في تلهيةِ الشعوب، يجيدونَ المعاركَ الوهمية ضدهم، يتركونهم يتسلَّون بالفتات، وعندما يكون الشعب «أي شعب» يعاني العوز الاقتصادي أو الخدمي أو حتى عندما يبدأ ولاةَ أمرهِ بالتجهيزِ لصفقةٍ ما، يلجؤون لـ«حراس الهيكل» أو أولئك الذين يظنونَ أن اللـه لم يهدِ سواهم، لا ليذكرونا فقط بكذبةِ أن «لحومَ العلماء مسمومة»، لكن لتذكيرنا أيضاً بأن ما نعيشهُ قضاء، والخنوعَ قضاء، حتى مجردَ السؤال إن كانت التفاحة التي أكلَها سيدنا آدم حمراء أم صفراء، هو ترفٌ فكري يعارض هذا القضاء، ولكن نتساءل: هل المسير على خبزِ الفقراء والمستضعفين جائزٌ؟ هل الابتهالَ بأصوات الثكالى والتعمد بدماءِ الأطفال وتوزيعَ صكوكِ الغفران التي مارسها «حارس الهيكل» في مضاربِ القادمينَ من خارج التاريخ برفقةِ من رفضَ تكفيرَ داعش حلال؟ والأهم هل السيرَ سيرَ القطعان إلى وارسو جائزٌ شرعاً؟
عبثية المشهد في وارسو كانت بالغةَ الحدّة، مهما حاولنا بسذاجةٍ أن نبسِّطَ من هولِها، لأننا وفي الكثيرِ من الأحيان نرتكِب خطأ تسفيهِ الأحداث والنظر إليها كما لو أنها لم تكن، تماماً كما يرتكب البعض كوارثَ بربطِ كل حدثٍ بما يناسب أهواءه، اطمئنوا فاليماني اليمني الذي كانَ يجلس إلى جانبِ بنيامين نتنياهو ليس ذاك «اليماني» الذي تبحثونَ عنه، والقمة ليست موجهة ضد إيران بل على العكس، هذه القمة في آخر اهتماماتها إيران، و«همروجة وارسو» استعراض أميركي وفرصةً لمصافحاتٍ أو مصالحاتٍ بين العرب والكيان الصهيوني ما زال هناكَ من «يخجل» من إعلانها صراحةً.
هذا الاستعراض ليس بالمنطق السهل، وتعويم الكيان الصهيوني بهذهِ الطريقة لا يمكن التعامي عنه بادعاء إخفاق المسعى الإسرائيلي بالتحشيد لضرب إيران، بل نكاد نجزم أن أسطوانة «قصف إيران» هي آخر ما يفكر بهِ هؤلاء، وهو عملياً ما حدث في الاجتماع، التي يمكننا باختصار القول إن الأميركي من خلالها استعاد على المستوى السياسي زمام المبادرة، فأين الطرف الآخر؟
تزامن انعقاد «اجتماع وارسو» مع انعقادِ الاجتماع الثلاثي بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والإيراني حسن روحاني ورئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان في سوتشي الروسية، الأمر الذي فرض نوعاً من المقاربة على المستوى السياسي والإعلامي بين الاجتماعين.
مبدئياً لا يمكننا الحديث عن أن هناك «ضربة معلم» بتزامن انعقاد الاجتماعين، بل على العكس فإن التوقيت أضرّ بسوتشي أكثر مما أساء لوارسو، ولو كان الهدف فعلياً من هذا التزامن إظهار وجود معسكرين متناقضين كان من الأفضل توسيعَ اجتماع سوتشي ليشمل دولاً أكثر معنية كذلك الأمر بالشأن السوري ولم تكن مدعوة أو لم تحضر وارسو.
كذلك الأمر لا يمكن التمييز بين الاجتماعَين كما يتحفنا البعض من منطلق أن الأول في وارسو يبحث عن الحرب، والثاني في سوتشي يبحث عن السلام والتهدئة، فهل من عاقلٍ يظن أن كياناً مرتعباً من بضعةِ أنفاق، سيشد أزرهُ بولي عهد أبو ظبي ـمحمد بن زايد ليضرب إيران؟ لكن في المقابل هل من عاقلٍ يمكن له أن يثق بـسلامٍ وتهدئة يُصنعانِ بوجود مجرمٍ ومخادع اسمه رجب طيب أردوغان؟
هذه البديهية ربما سنسمعها من أي مواطنٍ سوري محب لوطنهِ، أما في التحليل والوقائع فإن قمة سوتشي لا يبدو أنها اتفقت إلا على احترام السيادة السورية وضرورة خروج القوات الأميركية من سورية، لكن حتى هذه النقطة يبدو أن كلاً رآها من منظارهِ، فمثلاً هم تحدثوا عن القوات التي جاءت من دون إذنٍ من الحكومةِ السورية، على حين إلى جانبهم يجلس من تحتلّ قواته أراضي سورية، هي مفارقة غريبة تنسحب مع كل أسف على موضوع تأكيد «السيادة السورية»، على حين عمليات التتريك في الشمال السوري تسير حتى بما يتعلق بلوحاتِ السيارات وتحويلِ المدارس إلى مقرات للمرتزقة الأتراك المشرفين على العصابات الإرهابية، وهي عملياتٌ لا يشبهها إلا «أسرَلة» الجولان السوري المحتل.
ربما أن الاجتماعين بدوا عملياً لزوم ما لا يلزم، فبنيامين نتنياهو مثلاً حصل قبل اجتماعِ وارسو على ما هو أهم، ألم يُطالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الإسرائيليين بالحفاظ على «قادتهم»، وربطَ زعيم أكبر دولة عربية أمنَ المواطن المصري بأمن المواطن الإسرائيلي؟ ألم تُفتح أبواب دولة عُمان لاستقبالهِ في الوقت الذي كانت فيه هذه الدولة توصف بالعاقلة! لكن إن كان يُحسب لوارسو أن الأميركيين نجحوا بفرضِ اجتماعٍ علني بحضور ما تبقى من هذا النظام العربي المهترئ يكون فيهِ رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو نجم الاحتفال، فإن اجتماع سوتشي بدا صورةً مكررةً عن الاجتماعات السابقة، لم يتبدل فيها إلا تموضع المدعوين عند التقاط الصور التذكارية، فالابتسامات والعباراتِ المُبهمة في البيانات لا يمكن لها أن تكونَ نصراً، حتى الحديث عن السعي لتسهيلِ إطلاق عمل اللجنة الدستورية يبدو قاصراً، فبماذا سيفيدنا التركي في النهاية إذا كان الأميركي رافضاً لها؟ وبمعنى آخر: لا يزال التركي يلعب أقذرَ لعبةٍ في العصر الحديث، وما زال هناكَ من يراهُ شريكاً في الحل، والنتيجة أنه ما زال يتريث لكسبِ الوقت واضعاً قدماً لهُ على كلِّ ضفةٍ بانتظارِ ما بعدَ الانسحاب الأميركي من سورية، إذ لم تكد بنود الاجتماع يجف حبرها حتى أعلن الجانب التركي على لسان وزير حربهِ خلوصي أكار خلال حضورهِ قمة الأمن في ميونخ بأن قيام التحالف بتأمين المنطقة الآمنة المزمع عقدها لن يكونَ مناسباً ولا كافياً، لأن بلادهُ هي من يجِب أن تتولى وحدها إدارة تلك المنطقة، فماذا ينتظرنا؟
إعلامياً انتهى وجود تنظيم داعش من الأرض السورية، هذا التسرع الأميركي في إعلان انتهائِه للمرةِ الثانية يقابلهُ رغبة سريعة في إنجاز الانسحاب، كما يقابلهُ رغبة أوروبية بأن تحذو دولهم حذوَ الأميركي فور إنجاز الانسحاب هذا إن لم يكن قبله، تحديداً أن الأوروبيين عبروا عن الغموضِ الذي يكتنفهُ السلوك الأميركي في سورية وهو ما قاله صراحةً قبل أمس وزير الخارجية الفرنسي إييف لودريان بأنهم «لا يعلمون ماذا يريد ترامب من سورية؟»، لكن الرد الأميركي كان واضحاً عبر نائب الرئيس الأميركي مايك بنس الذي قالها صراحةً: إنه «حان الوقت لينسحب الأوروبيون من الاتفاق النووي مع إيران»! هذا الرد هو أَبعدَ من مجردِ رسالةٍ مبطنة للحلفاء الذين خذلوا الإدارة الأميركية بما يتعلق بالملف النووي الإيراني، هي دعوة جديدة لفتح بازار المقايضات التي سينضم إليها التركي لاحقاً الذي سيكون صاحب الحظ الأوفر بتسجيل المزيد من النقاط، وبمعنى آخر: لا حرب على إيران، وعقاب الأوروبيين سيكون عبر سعي أميركي لتسليم ملف المناطق التي ينسحبون منها للتركي، ما لم يبدل الأوروبيون قرارهم بشأن الانسحاب من الاتفاق النووي وهو ما تضغط الشركات الأوروبية الكُبرى لمنعِ حدوثه، هذا ما ينتظره أردوغان وما يسعى إلى كسبِ الوقتِ من أجلهِ والهدف هو كل الشمال السوري من «عين ديوار» شرقاً وصولاً إلى «راجو» في الغرب عبر ضمانات أميركية باحتواء الانفصاليين الأكراد على الطريقة العراقية.
هذا السعي المتجدد للنظام التركي لا ينفع معه عملياً لا حوارات ولا حتى ضمانات ولا حتى النوم في عسل تصريحاتهِ عن عملية مشتركة تركية إيرانية روسية في سورية يعي هو قبل غيره استحالةَ حدوثها، ما ينفع معه هو الاستعداد لأن تبدأ القوات العربية السورية معركةَ إدلب، هذا الأمر هو ما سيقلب الطاولة على الطموحات الأردوغانية وإلا فقد لا ينتهي بنا المطاف مثل غيرنا لنجلس ونتساءل: هل المسير على سطحِ الكعبة حلالٌ أم حرام؟ بل قد يصل فينا الأمر لنجد الإرهابي «أبا محمد الجولاني» تحولَ إلى مرشحٍ مقبولٍ ليس من تركيا فحسب لكن من كل حاملي لواء «الصحوة الإسلامية»، لعضويةِ اللجنة الدستورية في سورية.
الوطن السورية
Discussion about this post