الجِدِّية الروسية الواضحة للقيام بعملية عسكريّة في إدلب، مع استقدام روسيا لتعزيزات عسكريّة إلى قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، تسعى تركيا إلى امتصاصها عبر الحديث عن التزامات باتفاق إدلب، وعبر محاولة إجراء تغييرات في هيكلة التنظيمات الإرهابية في الشمال بما يؤمن لأنقرة مساحة من المراوغة على هذا الملف، في وقت تظهر فيه ميلاً نحو واشنطن فيما يخص الحديث عن «منطقة أمنية» في الشمال، وإظهار ابتعاد عن طرح موسكو لبروتوكول أضنة.
إلا أن هذه العملية التي سيكون معها ملفا شمال شرق البلاد واللجنة الدستورية على طاولة رؤساء ضامني أستانا: روسيا وتركيا وإيران، قد تكون على مراحل، بحيث تتمثل المرحلة الأولى بضرب مقرات التنظيمات الإرهابية في إدلب والقضاء على القادة البارزين فيها وعلى مقراتهم وأسلحتهم الفعالة، في حين يتصدى الجيش العربي السوريّ لهم بمحيط المنطقة العازلة التي نصّ عليها اتفاق إدلب.
على أن تتبع هذه المرحلة، مرحلة ثانية لاحقا بوساطة عملية عسكرية برية واسعة في الشمال تهدف إلى تفكيك تلك التنظيمات، وصولاً للقضاء عليها واستعادة السيطرة على كامل الشمال.
ولا بد من الإشارة إلى أن تعزيزات العتاد الجوي الروسيّ تزامنت مع تعزيز الجيش العربي السوريّ وحلفائه لقواتهم على حدود المنطقة التي يسيطر عليها الإرهابيون في الشمال، ذلك بعد التطورات التي جرت مؤخراً، وتمثّلت بسيطرة «النصرة» على مناطق واسعة هناك.
لا بدَّ أن تركيا وفي ظلّ تطور مجموعة من الملفات في شمال البلاد وفي شمال شرقها ستسعى إلى إيجاد مخارج للتنظيمات المسلحة التابعة لها، أو على الأقل تلك التنظيمات التي تربطها فيها علاقة جيدة، والدليل أن نقاط المراقبة التابعة لها في محيط منطقة «خفض التصعيد» في شمال البلاد لا تزال قائمة وتعمل وتستقدم قوات، رغم سيطرة «جبهة النصرة» على معظم المحافظة، ومن ثم فإن الانشقاقات في «النصرة» والخلاف المتصاعد بين الأخيرة و«حراس الدين» والذي تؤكد المؤشرات أنه سيتواصل باتجاه صدام كبير بين التنظيمين، يمكن حسبانه محاولة مُخططاً لها من متزعم «النصرة» أبي محمد الجولاني الذي أيد هجوم تركيا على شرق الفرات، ومن ثم فإن معركته مع تنظيم «حراس الدين» ذي الولاء «القاعديّ» سيكون بمثابة الإثبات لضامني لأستانا، أنها لم تعد تنظيماً متطرفاً، ما يعطي أنقرة مساحة للدفاع عنها.
إنَّ الوضعَ الحالي في شمال البلاد بات واضحاً، من حيث توضُّعات التنظيمات الإرهابيّة وتوجهاتها الحالية وعلاقتها، وهو ما أكده مؤخراً متزعم القاعدة أيمن الظواهري من وقوفه إلى جانب «حراس الدِّين» ضد «النصرة»، ومن هنا يمكن أن تكون عملية ضرب التنظيمات الإرهابية في إدلب عن طريق القضم التدريجي، خطة ممكنة التنفيذ على وجه السرعة وبمعزلٍ عن التنسيق مع تركيا، أي الاستفراد بتلك التنظيمات والبداية مع «حراس الدِّين» و«التركستاني»، الأمر الذي سيسبب المزيد من التصدعات داخل «هيئة تحرير الشام» الواجهة الجديدة لـ«النصرة» ويزيد من حالة التخبط داخل «النصرة» ذاتها، ومن ثم الانتقال إلى عملية القصف عبر سلاح الجو لمقرات الإرهابيين في إدلب، ومن ثم إتباع هذه المرحلة بعملية برية واسعة.
إنَّ ما سبق سيمكّن أيضاً من زيادة تأمين قاعدة حميميم من الهجمات التي كانت تطلق ضدها من مناطق وجود «حراس الدين» و«التركستاني» وخصوصاً جسر الشغور وريف اللاذقية الشمالي الشرقي.
وسط هذه التطورات شمال البلاد، كان لافتاً منذ مطلع الشهر الجاري غياب الحديث عن المقترح الروسي الذي مفاده العودة إلى العمل ببروتوكول أضنة للعام 1998 بين تركيا وسورية، وهو كان الطرح والرد الروسيّ الأول على ظهور فكرة إقامة «منطقة آمنة» أو «منطقة عازلة» في شمال البلاد بين تركيا وأميركا، في المقابل بدأت تبرز طروحات جديدة حول إنشاء هذه المنطقة من قبيل تسميتها بـ«المنطقة الأمنية»، وحديث عن قوات عربية كرديّة بقيادة أحمد الجربا تتمركز فيها، ولعلَّ هذا الطرح يتقاطع مع الطرح الكرديّ الجديد بـ«الانفتاح على الدول العربية» وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الكرد يتقربون بهذا الطرح من السعودية وقطر على وجه التحديد، ولم يُطرح اسم الجربا في هذه المرحلة، إلا بحسبانه من رجالات تلك الدول الخليجية.
كما كان من اللافت الموقف الكردي الذي يستمرّ في تخبُّطه، ففي الوقت الذي تزدادُ فيه القناعة لدى الكرد بأّنه لا يوجد مفرّ لهم من الوقوع في القبضة التركية، سواء أكان ذلك بسببٍ من «المنطقة الآمنة»، أم بسببٍ من حملة عسكريّة تركيّة على شرق الفرات، وتتزايدُ أيضاً طروحاتهم غير المنطقيّة مع فكرة المطالبة بمنطقة آمنة وحظر جوي فوق مناطق سيطرتهم وكأنهم لا يقرؤون تاريخ الأزمة بدقة، فمنذ بدايتها لم يطبق على سورية أي قرار أممي من قبيل عقوبات أو حظر جويّ أو منطقة آمنة أو حتى عقوبات اقتصادية، فكل هذه القرارات لن تتم إلا بقرار دوليّ لن يسمح له الروس بالمرور عبر مجلس الأمن، وبالتالي سيبقى تحت إطار التوافقات الدولية بين الفاعلين الدوليين في سورية، ليس إلا.
الملاحظ أن الأتراك والكرد يحاولون الحفاظ على خطّ الرجعة وعلى صلات الوصل الرئيسة في خياراتهم، فالأتراك رغم كلّ مشاوراتهم حول «المنطقة الآمنة» مع واشنطن، لا يغفلون الإعلان عن أن أي توافق بهذا الشأن يجب أن يسألوا موسكو بشأنه، وهي نقطة إضافية في محصلة التأثير الروسيّ في مجريات الأوضاع السورية، كذلك هم الكرد، فمهما بحثوا عن مخارج لأزمتهم الحالية التي وجدت مع قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سورية، فإنهم يتركون خطّ رجعة باتجاه دمشق عبر التأكيد أن من أولوياتهم الحوار السوريّ السوريّ، والحلّ السياسي، وهو ما يؤكد أيضاً أن كل الخيارات في كفة وخيار الدولة السورية في كفة أخرى، وما بقي على الكرد إلا أن يدركوا أنها الكفة الراجحة.
إنَّ المرحلة الحالية والتي يمكن وصفها بمرحلة التخبط في خيارات الكرد يجب أن تكون فيها موسكو أكثر نشاطاً على خطّ واشنطن الكرد، ولعلّ ما نشر نهاية الأسبوع عن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخروفا ليس كافياً في ظلّ حديث كرديّ عن توجه نحو الإمارات والسعودية، وهذا مطلب مشترك للدولتين بأن يكون لهما دوراً فاعلاً في الملف الكرديّ لما يؤمّن لهم من عودة نشطة على خط الأزمة السورية، ويعطيهم ورقة ضغط على تركيا التي هم في الوقت الراهن ليسوا في علاقات جيدة معها.
الوطن السورية – مازن جبور
Discussion about this post