فيما تنشغل معظم التحليلات والقراءات السياسية السورية في تناولها الأزمة الأوكرانية بالتركيز على إظهار مدى مشروعية العملية العسكرية الروسية من ناحية، وانعكاساتها المرتقبة على مستقبل النظام العالمي وتحولاته المرتجاة من ناحية ثانية، يبحث السوريون عن إجابات واضحة وشفافة للكثير من الأسئلة التي تثيرها الأزمة الأوكرانية.
ماذا لو ربحت موسكو الحرب؟ كيف سينعكس ذلك على سوريا سياسياً ميدانياً واقتصادياً، بعيداً عن تلك اللغة الإعلامية التي باتوا يتحاشون سماعها منذ سنوات؟ والسؤال نفسه يطرح في ما لو طال أمد العملية العسكرية الروسية، وتعثّرت في تحقيق أهدافها.
بوضوح أكثر، يريد الشارع السوري أن يسمع إجابات أسئلة محددة من قبيل: هل يمكن أن يؤدي الانتصار الروسي إلى استعادة دمشق السيطرة على ما تبقى من محافظة إدلب بعملية عسكرية أو عبر سلسلة تفاهمات جديدة مع أنقرة؟ وهل سيقلص مثل هذا الانتصار عمر الوجود الأميركي في المنطقة الشرقية وتأثيره؟ وماذا عن الانفراجات الاقتصادية التي يتمنى المواطن حدوثها؟ هل سيكون للنصر الروسي دور في تحقيقها؟
هذه الأسئلة نفسها تطرح أيضاً مع السيناريو الآخر المتمثل بطول أمد الأزمة الأوكرانية وتعقّد عملية حلها. وتالياً، إن حسابات جميع الأطراف يمكن أن تتغير، سواء في مقاربتها تطورات الأزمة الأوكرانية أو في تعاطيها مع الملف السوري كأحد الملفات الأساسية والخلافية في العلاقة الروسية الغربية.
وبناءً على ذلك، إنَّ أحد أهمّ الأسئلة التي يجري تداولها شعبياً: هل يمكن للغرب في ضوء ذلك أن يعيد فكرة إسقاط “النظام” إلى الواجهة، وما يشكله ذلك من عودة إلى الاضطرابات الأمنية والمواجهات العسكرية ومزيد من تدهور الوضع الاقتصادي؟
لهذا كلّه، ينظر الشارع السوري إلى تطورات الأزمة الأوكرانية بقلق شديد، ولا سيما أنَّ أولى آثارها الاقتصادية كانت ذات بعد سلبي. وقد تجلّت ملامحها منذ الساعات الأولى للعملية العسكرية الروسية الخاصة، إذ شهدت الأسواق المحلية زيادة في أسعار جميع السلع والمنتجات وفقدان سلع أخرى أساسية، إضافةً إلى حدوث نقص في كميات حوامل الطاقة المتاحة للاستهلاك المنزلي والصناعي والتجاري.
المنتصر يكتب النهاية
يدرك الشارع الشعبي في سوريا، سواء كان يؤيد مثل هذا القرار أو يعارضه، أن انحياز حكومته إلى جانب موسكو في معركتها مع الغرب كان بمنزلة “مسلمة” شعبية في ضوء العلاقات التاريخية التي تربط البلدين والتحالف الحديث بينهما، فإذا كانت دول حليفة للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة، كالإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وغيرهما، فضلت الوقوف على الحياد في هذه الحرب تارة، ورفض السير في ركب المشروع الأميركي تارة أخرى، فمن الطبيعي لدمشق في مثل هذه الحالة أن تتخذ موقفاً مؤيداً لحليفتها موسكو، ليبقى الهاجس الشعبي فيما قد تحمله هذه “المسلمة” من نتائج على حياتهم وعلى مستقبل أزمتهم المستمرة منذ العام 2011.
مع إصرار موسكو على السير في عمليتها العسكرية إلى نهايتها المرسومة، وحدوث اختراق مهم في مفاوضات البلدين، تمثل بتأكيد كييف تخليها نهائياً عن طموحها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فإنّ ترجيح كفة موسكو في كسب المعركة مع الغرب يبدو الأقرب إلى التحقق.
ولهذا، إن محاولتنا تقديم أجوبة مبسطة عن أسئلة السوريين المشار إليها أعلاه، ستبدأ مع سيناريو الانتصار الروسي. وهنا، يمكن تصنيف الانعكاسات المتوقعة على الملف السوري في 3 خانات أساسية:
الخانة الأولى تتعلق بالمشهد العسكري والميداني، فالانتصار الروسي في المعركة الأوكرانية يجعل كلمة موسكو في الساحة السورية تبدو الأعلى، وهو ما من شأنه أن ينعكس إيجاباً على أولوية الحكومة السورية المتمثلة باستعادة السيطرة على الطريق الشهير M4، والذي يعدّ بمنزلة شريان اقتصادي حيوي يربط محافظتي حلب واللاذقية، ثم حتمية القرار السوري باستعادة ما تبقى من محافظة إدلب.
والسبب في هذا التفاؤل السوري أمران؛ الأول أن أنقرة ستكون أكثر تعاوناً هذه المرة لاعتبارات عدة، أهمها محاولة كسب ود المنتصر على حدودها وإظهار حسن نياتها، والآخر أنَّ موسكو ستكون حريصة على محاسبة أنقرة على تزويدها كييف بالمعدات والتجهيزات العسكرية، ولا سيما الطائرات المسيرة من نوع “بيرقدار”، وهي محاسبة لا تقضي حتماً بحدوث مواجهة عسكرية وسياسية مباشرة، إنما بتقليم الأظفار بطريقة “ودية”.
في الشرق السوري، لا يبدو أن انقلاب الوضع سيكون بتلك السهولة التي يتوقعها البعض، فالوجود الأميركي في المنطقة سيظل عائقاً أمام نجاح أي مفاوضات محتملة بين الحكومة السورية وما يسمى “الإدارة الذاتية الكردية”، وإن كانت زيارات قادة “قسد” لموسكو سوف تكثر، أملاً في موقف روسي داعم لبعض مطالبهم.
وبناءً على ذلك، سيبقى الأمر في الشرق السوري رهناً بمفاوضات روسية أميركية حول مستقبل الوجود الأميركي، إن حدثت، أو بانتظار قرار أميركي مشابه لذلك الذي اتخذ في أفغانستان، والاحتمال الثالث هو أن تطلب “قسد” من القوات الأميركية مغادرة المنطقة، تمهيداً لتنفيذ اتفاق شامل مع الحكومة السورية، وهذا يبدو احتمالاً ضعيفاً، بالنظر إلى أنَّ قرار “قسد” السياسي لا يزال في مكان آخر خارج الجزيرة السورية.
الخانة الثانية خاصة بمستقبل العملية السياسية. من المرتقب أن تكسب العملية السياسية حول سوريا، والمدعومة من موسكو في ظل تفاهمات أستانا، زخماً جديداً يمكن أن يتمخض عنه إنجاز مسودة أولية للدستور تطرح على الاستفتاء الشعبي في سوريا؛ فموسكو، في حال انتصارها أوكرانياً، ستحاول تعزيز مكانتها في الساحة الدولية كدولة داعمة وراعية للسلام العالمي، وذلك بغية تغيير الصورة الذهنية التي شكلها الإعلام الغربي عن موسكو خلال عمليتها العسكرية في أوكرانيا، والظروف السياسية المحيطة بالأزمة السورية تبدو مساعدة لها، فالدول الإقليمية والغربية الداعمة للمعارضة السورية إما أنها في صدد مراجعة مواقفها حيال العلاقات مع دمشق، وإما أنَّ الملف السوري برمّته لم يعد أولوية لها، كما هو الحال لدى إدارة الرئيس جو بايدن.
الخانة الثالثة تتمثل بتداعيات الانتصار الروسي على الأوضاع الاقتصادية في سوريا. وهنا تتمحور معظم تساؤلات الشارع السوري، المتعب إلى درجة اليأس من الأوضاع الاقتصادية المتدهورة منذ أكثر من عامين بفعل عدة عوامل، من بينها تداعيات العقوبات الغربية الطويلة على الاقتصاد السوري.
هنا، يأمل السوريون أن يترافق الانتصار الروسي مع تزايد احتمالات حدوث انفراج في الأوضاع الاقتصادية، أياً كانت دوافعه ومخرجاته، عبر زيادة الدعم الاقتصادي الذي يمكن لموسكو أن تقدمه على صعيد تأمين الاحتياجات الرئيسية من نفط وغذاء وتفعيل التعاون الاستثماري والتجاري، أو عبر بوابات التفاهمات الإقليمية والدولية التي يمكن أن تجد طريقها إلى الملف السوري.
عملياً، هناك عقبتان حالتا دون زيادة معدلات التبادل والتعاون التجاري بين البلدين، وتحديداً لجهة سد النقص الحاصل في الاحتياجات السورية من حوامل الطاقة وبعض المحاصيل الزراعية.
العقبة الأولى تتمثل بمخاوف الشركات الروسية من تعرضها للعقوبات الأميركية، وما يمكن أن يؤدي إليه ذلك من تأثر حضورها ضمن الأسواق العالمية وتضرر مصالحها.
أما العقبة الثانية، فهي في ضعف السيولة النقدية لدى الحكومة السورية، وعجزها تالياً عن تسديد قيمة مستورداتها وديونها المترتبة عليها لمصلحة الشركات الروسية. وإذا كانت الأزمة الأوكرانية جعلت معظم الشركات الروسية في مرمى العقوبات الغربية والأميركية، والفرصة لذلك باتت سانحة لتعاون أوسع بين الجانبين، وهناك مقترحات عدة لتحقيق ذلك، فإن العقبة الثانية لا تزال قائمة، الأمر الذي يفترض أن يحفز الحكومة السورية على إيجاد حلول مستدامة تمكنها من بناء علاقات تجارية مع السوق الروسية. وقد باتت هذه الحلول معروفة، ومحورها الأساس زيادة كميات الإنتاج المحلي.
السيناريو الافتراضي
السيناريو الآخر، وهو مجرد طرح افتراضي ينحاز إليه من يختلفون مع السياسة الروسية دولياً أو إقليمياً أو بسبب الأزمة السورية. يقوم هذا السيناريو على إمكانية خسارة موسكو حربها مع الغرب عبر البوابة الأوكرانية.
لا شك في أن هذا الأمر ستكون له ارتداداته المباشرة على الساحة السورية فيما لو حدث، والموضوعية تقتضي منا القول إن الاعتقاد بأن العملية الروسية كانت ستكون خاطفة وسريعة، ولن تستمر سوى بضعة أيام، دفع البعض من السوريين وغيرهم إلى ترجيج كفة هذا السيناريو، إما من بوابة التأثر بالمصطلحات الغربية التي رأت في الأمر مجرد “فخ” غربي وقع به الرئيس بوتين، أو لضعف المعلومات والقراءات السياسية التي بني عليها مثل هذا الرأي، والمرتبطة بمجريات الأزمة الأوكرانية وخلفياتها.
ليس هناك سوى التشاؤم بالنسبة إلى السوريين في ما لو قدر لهذا السيناريو أن يقع؛ فهذا معناه أن الساحة السورية ستكون إحدى السّاحات الدولية لتصفية الغرب حساباته المؤجلة مع روسيا.
وبناءً عليه، إن التوقعات ستكون مفتوحة على كل الخيارات، من استئناف تقديم الدعم المالي والعسكري للفصائل والمجموعات المعارضة، بغض النظر عن تصنيفاتها ومرجعياتها، وزيادة حجمه، إلى محاولة افتعال قلاقل أمنية داخل مناطق سيطرة الحكومة بغية إضعافها، وصولاً إلى تدريب ميليشيات ومرتزقة لاستهداف الوجود الروسي في مناطق البلاد، وإطلاق يد أنقرة في الشمال السوري لاحتلال المزيد من الأراضي السورية.
بالطبع، سيكون الملف الاقتصادي حاضراً أيضاً في سيناريو التحرك الغربي، من خلال العمل على فرض مزيد من الإجراءات التي من شأنها تشديد الحصار الاقتصادي على دمشق، وصولاً سياسياً إلى العودة إلى فتح معركة محاولة نزع الشرعية عن الحكومة السورية دولياً، والضغط على بعض الدول لمنع انفتاحها على دمشق.
هي مجرد خيارات مفترضة، لكن ليس من الضروري أن تتجه الدول الغربية لتنفيذها جميعاً، فربما يُطبَّق جزءٌ، ويترك آخر تبعاً لحسابات المصالح الغربية، ولكن في مثل هذه الحالة، فإنَّ الغرب لن يكون عاملاً مساعداً على تحقيق الاستقرار والأمن في سوريا.
وماذا بعد؟
لا شكَّ في أنَّ خسارة الولايات المتّحدة في أيّ مكان من العالم يدخل الفرحة إلى قلوب السوريين، كيف لا وهي سبب كل هذا البلاء الذي يعانونه! لكنهم في المقابل لم يعودوا قادرين على تحمل المزيد من الأثقال والأحمال في سبيل ذلك.
لذلك، فهم ينظرون إلى المواجهة الروسية الغربية في أوكرانيا على أنها بداية طريق الخلاص لهم؛ فإن مالت كفة موسكو، سيكونون مطمئنين، فعلى الأقل لن تتراجع الأمور في البلاد ميدانياً إلى الوراء، وإن تعثر الحليف، فسيكون ذلك جزءاً من الإجابة على سؤال لطالما كانوا يرددونه، في ظل استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية من دون أن يجدوا له جواباً شافياً: وماذا بعد؟ أي نظرياً لا يزال هناك ما هو أسوأ (أبعده الله عن سوريا والسوريين).
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا