قد تفسر «الوظيفية» في الدور طبيعة التحركات والسياسات التي يمارسها الأردن تجاه المسائل التي تفرض نفسها عليه، وتبرر أيضا الكثير مما يبدو سلوكاً متناقضاً تجاهها بحيث يبدو ممكناً القيام بالشيء ونقيضه في مرحلتين تبدوان في كثير من الأحيان متقاربتين حتى ليثير التقارب الزمني بينهما الاستغراب، ولعل ذلك يبدو واضحا في تعاطي الأردن، مع الأزمة السورية التي تعتبر بالنسبة إليه ملفاً شائكاً ذا أهمية استثنائية تفرضها حقائق الأمن والاستقرار جنباً إلى جنب مع حقائق الاقتصاد، ومعايير أخرى من نوع الجوار الذي يعطي في كثير من الأحيان تداخلات مجتمعية ثقافية يصعب على صانع القرار تجاهلها.
عندما تبدى للأردن أن ثمة مناخاً دولياً، غربياً بالتحديد وبعضه إقليمي، يسير باتجاه إحداث تغيير كبير في سورية كانت الخيارات المتاحة أمام عمان ضيقة، والضغوط عليه لا قبل له بمواجهتها، الأمر الذي دفعه للقبول باحتضان «غرفة الموك» على أراضيه عام 2015، على الرغم من أنه كان مدركا للمخاطر المترتبة على ذلك الفعل خصوصا إذا ما جاءت النتائج عكسية لتلك التي كانت ترمي إليها، والشاهد هو أن عمان حتى في أوج انغماسها بذلك المشروع لم تذهب نحو قطيعة كاملة مع دمشق وإن كان السطح السياسي الذي ترسمه العلاقة الرسمية بين البلدين كان قد شهد تهتكا سجلته محطات عدة كان أبرزها الإعلان عن أن السفير السوري في عمان «شخصاً غير مرغوب فيه» وذلك في شهر أيار من عام 2014، وهو المصطلح الذي يعبر عادة عن نظرة مفادها أن أداء هذا السفير يثير إشكالاً للسياسات العامة للبلاد التي عبرت عن موقفها ذاك، كان الفعل تشنجيا بدرجة لا يفسرها سوى المآلات التي ذهبت إليها عمان بعد أقل من عام حين خرجت إلى السطح «غرفة الموك» المحتضنة أردنيا كفعل إسنادي لنظيرتها «غرفة الموم» التي سبقتها بثلاثة أعوام وكان مقرها الأراضي التركية منذ منتصف عام 2012، بعد أن تبين أن الإسناد بجناح واحد فعل غير ناجح أو هو غير كاف لإتمام المهمة.
بدء التململ على صانع القرار السياسي الأردني منذ انطلاق «مسار أستانا» العام 2017، فالأول بدا وكأنه أجاد قراءة الرياح السياسية التي استولدها، ولسوف يستولدها، الثاني لاحقاً، وهي، أي تلك القراءة، تقول إن «الغرفتين» قد استنفدتا صلاحياتهما تماماً، وأن قيادتهما في واشنطن عادت لنغمتها القديمة التي تقول بتغيير «سلوكية النظام» في دمشق لا تغييره، وهذا سيدفع نحو لحظ أن واشنطن ماضية في سياسة ترمي إلى تثبيت الوضع السوري الراهن على حاله، وتبقي الجرح السوري في حال من النزيف المستمر، لكن هذي القراءة الأردنية قادت نحو مزيد من التململ إذ لطالما ارتأت عمان أن النزيف السوري سيعمق من نظير له حاصل على الضفة الأردنية بفعل اتصال العديد من الشرايين بينهما.
قبيل نحو عام، أو يزيد قليلاً، قدم الأردن مبادرة للولايات المتحدة تقضي بتعديل هذه الأخيرة لسياساتها تجاه الأزمة السورية، والانتقال من العقوبات غير المجدية إلى سياسات أكثر مرونة تلحظ المتغيرات الحاصلة في الملف السوري، وفي حينها جاء الرد الأميركي على تلك المبادرة «بارداً» لكن عمان ارتأت أن «البرود» الأميركي هو من النوع الذي يمكن نقله لمرحلة «الفاتر» ولربما «الساخن» لاحقا إذا ما سنحت الظروف والمتغيرات، ثم أعاد الملك الأردني عبد الله الثاني طرح أفكار جديدة لمبادرته أثناء لقائه بالرئيس الأميركي جو بايدن في قمة جدة في تموز من العام الحالي، والراجح أن الرد الأميركي كان على حاله «البارد» السابق قياساً لحماوة الملفات الأخرى التي كان يحملها بايدن في جعبته وعلى رأسها الطلب من السعوديين، ودول الخليج، زيادة إنتاج النفط لتلافي ارتفاع حاد في أسعاره.
في لقاء معه أجرته صحيفة «ذا ناشيونال» قال وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، الذي كان موجوداً في نيويورك لحضور الدورة 77 من أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، إن بلاده «تحشد لعملية سياسية تقودها دول عربية لإيجاد حل ينهي الصراع في سورية»، ثم أضاف: إن «عمان ترنو إلى دور عربي جماعي لإنهاء الأزمة السورية بالتنسيق مع الأصدقاء والشركاء» وإن «العرب يجب أن يبذلوا جهداً في إنهاء الكارثة السورية»، وفي شروحاته التي قدمها لإيضاح المبادرة الأردنية قال إن الأخيرة ستستند إلى قراري مجلس الأمن ذوي الرقمين 2254 و2642 اللذين يضعان «خريطة طريق» لتسوية تفاوضية.
هذه المبادرة الأردنية الجديدة التي ترمي إلى تسريع مشاريع «التعافي المبكر» بـ«نهج تدريجي» وفقاً لتوصيف الصفدي نفسه، تلحظ ضرورة إحياء الدور العربي المجمد منذ سنوات تجاه الأزمة السورية، واللحظ إياه يرقب التقارب السوري التركي الذي يبدو سالكا حتى الآن، والفعلان، أي الضرورة والترقب، يرميان إلى بث الروح في دور عربي يبدو متهتكا وإلى عدم ترك الساحة السورية لدور تركي بدا وكأنه غيّر من أدواته ليعتمد على «فرشاة» السياسة بديلا عن «إزميل» السلاح الذي استخدمه على مدى عشر سنوات، ومن خلالهما تهدف عمّان إلى شبك واشنطن برؤيتها الجديدة انطلاقاً من المخاوف المتولدة عن «الانسحابات» الروسية التي سيملأ الفراغ فيها الإيرانيون، وهي المخاوف التي تحدث عنها الملك الأردني صراحة في شهر أيار المنصرم.
قد تشكل دوافع الأردن التي قادته إلى إطلاق مبادرات عدة على مدى السنوات الثلاث السابقة باتجاه إيجاد حلول لأزمة باتت ترخي بظلالها الثقيلة عليه قياساً إلى تداعياتها الاقتصادية والأمنية، عوامل بارزة في مشروعيتها التي تزداد عبر «المخاوف» التي يمكن أن يستولدها تفاهم تركي سوري، لكن ما يضعف فرص نجاحها هو التوقيت الذي جاءت فيه، فالراجح الآن أن واشنطن تجد نفسها في وضعية «زارع الألغام» أمام «الممرات» الروسية، وهي تسعى إلى تفخيخ الملف السوري من جديد بوجه موسكو في أعقاب التطورات التي تشهدها الحرب الأوكرانية.
عبد المنعم علي عيسى الوطن