ركّزت إسرائيل، منذ السنوات الأولى لقيامها، على إدخال اعتباراتها الأمنية والسياسية والاقتصادية إلى البيئة الاستراتيجية لمنطقة البحر الأحمر، وتجلّى هذا التركيز في اعتماد سياسة تتضمن تنفيذ خطط وإجراءات لتأمين حرية الملاحة لها عبر مضائق تيران وقناة السويس في الشمال وباب المندب في الجنوب، وربطت إسرائيل مصير مصالحها بهذه السياسة.. وكان دافيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول، واضحاً في رسم المشهد، حيث أكد في كتابه “إسرائيل: سنوات التحدي”، الصادر عام 1963، أن “مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي وعلاقات إسرائيل بالدول الأفريقية والآسيوية ومسألة حرية الملاحة في البحر الأحمر وفي مضائق تيران تعدّ مسألة حيوية، وإذا لم تؤمّن حرية الملاحة هذه فإن ميناء إيلات يفقد كل جدواه الاقتصادية تقريباً”(4).
تساوقاً مع هذا التوجه، ظلّت إسرائيل، على امتداد العقود اللاحقة، تسعى إلى إيجاد مواطئ قدم لها في منطقة البحر الأحمر عموماً، وقرب مضيق باب المندب خصوصاً، وكانت تمزج العمل لحسابها الخاص مع العمل في إطار عمليات تنسيق أو تفاهمات أو شراكات إقليمية ودولية، وظلّ ما يهمها من ذلك هو حذف الأخطار التي تواجه ملاحتها أو على الأقل تقليصها.
ويبين استعراض الصراع في المنطقة، وعليها، احتفاظ السجل التاريخي المعاصر بحقيقتين لهما بعد صراعي؛ حيث قامت مصر عشية حرب عام 1967، بإغلاق مضائق تيران، وشكّل ذلك أحد الذرائع الرئيسة لنشوب تلك الحرب، إذ خشيت إسرائيل آنذاك من تضاؤل قدراتها الأمنية ومن المساس بتجارتها. وبالمقابل، في عام 1973، قررت اليمن ومصر منع السفن الإسرائيلية من عبور باب المندب، فتم تهميش هذا المضيق لصالح الطريق الذي يمر عبر رأس الرجاء الصالح.
وحالياً، في سياق حرص إسرائيل على مصالحها الاستراتيجية، وضمناً استمرار علاقاتها مع الشرق والجنوب، ولا سيما مع الصين، إلى جانب مصلحتها بتعزيز مكانتها الدولية، تسعى إسرائيل إلى منع التشويش على النقل البحري عبر البحر الأحمر، أو على الأقل خفض قيوده ليكون تأثيره هامشياً.
وفي الصورة الأشمل، تدور هناك عملية جيو- استراتيجية ذات آثار بعيدة على الساحتين الدولية والإقليمية، بما فيها إسرائيل. فبين أيلول/سبتمبر2014 وآذار/مارس 2015 سيطر مقاتلو “أنصار الله”(الحوثيون- مع تحفظ الباحث إزاء هذه التسمية أينما ترد لاحقاً) على العاصمة اليمنية صنعاء وعلى ميناء عدن ومضيق باب المندب ومناطق أخرى من الدولة، وعندئذ “برزت مخاوف إسرائيلية من أن استيلاءهم على مضيق باب المندب قد يؤثّر على طريق التجارة البحرية الوحيد لإسرائيل مع آسيا وأوقيانوسيا ودول في جنوب شرقي أفريقيا، وذلك رغم أن غالبية تجارة إسرائيل تتم عبر الحاويات التي تنقلها السفن الأجنبية، وتوزع على جهات عدة، وأن الحاويات الإسرائيلية تمر دون فحص دقيق لبوليصات الشحن”(5).
وبعدما خرجت السعودية، على رأس تحالف من عشر دول(غالبيتها عربية)، إلى معركة لإعادة السيطرة في اليمن إلى حكومة عبد ربه منصور هادي، ظل قتال شديد يدور في اليمن، بدت نتيجته بعيدة عن الحسم، وأصبحت الحرب هناك– حسب المصطلحات المتداولة- ساحة صراع على الهيمنة الإقليمية بين التحالف الإيراني والتحالف السعودي، وثمة عنصر مركزي في هذا الصراع هو موضوع السيطرة على باب المندب.. وبتقدير إسرائيل، كما بيّن د. شاؤول شاي(لواء احتياط، ورئيس سابق لقسم التاريخ في الجيش الإسرائيلي، ومدير وحدة البحوث في معهد السياسة والاستراتيجية IPS في المركز الأكاديمي متعدد المجالاتIDC في هرتسليا، ونائب سابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي)؛ “تحاول إيران من خلال حلفائها الحوثيين السيطرة على مضيق باب المندب، لتكون لها مراكز تأثير سياسية واقتصادية وقواعد أو تسهيلات عسكرية في دول عدة على الشواطئ الغربية للبحر الأحمر، في السودان وفي إريتريا”. وحسب د. شاي؛ “من الأفضل بالنسبة لإسرائيل أن يكون مجال البحر الأحمر خارج التهديدات الفورية الناشئة عن السيطرة الإيرانية، وتوجد لإسرائيل مصالح مشتركة مع التحالف العربي في جملة من المسائل الاستراتيجية، ومنها أيضاً منع السيطرة الإيرانية على حوض البحر الأحمر”(6).
وفي حادثة ذات دلالة إقليمية على التداعيات المرتبطة بالتوترات الأمنية التي شهدتها منطقة باب المندب، ذكرت تقارير أن تنظيم “أنصار الله” شن هجوماً (أواخر تموز/يوليو1918) على ناقلة نفط باسم “أرسان” ترفع العلم السعودي تحمل شحنة تقدر بنحو مليوني برميل نفط إلى مصر، حيث تعرضت لإطلاق صواريخ بالقرب من ميناء الحديدة اليمني(7).
إثر هذه الحادثة رأى المسؤولون الإسرائيليون أنه نشأت فرصة لحشر أنفسهم، وعرض خدماتهم في الانخراط ضمن أي ترتيبات أمنية عربية أو دولية في المنطقة. فقد قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في حفل تخريج فوج من ضباط إسرائيليين في سلاح البحرية في حيفا(1/8/2018): “إذا حاولت إيران إغلاق مضيق باب المندب، فإن إسرائيل والعالم سيتصرفان ضدها، وأنا مقتنع بأنها ستجد نفسها أمام تحالف دولي مصمّم على منعها من ذلك، وسيضم هذا التحالف أيضاً دولة إسرائيل بكل أذرعها”.. وصرّح وزير الحرب أفيغدور ليبرمان في المراسم ذاتها قائلاً: “سمعنا مؤخراً تهديدات بضرب السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، ونحن مستعدون بشكل جيد للرد على التهديد في البحر الأحمر وفي الجنوب والشمال”(8)، على حد قوله.
من الواضح هنا أن إسرائيل سعت إلى دخول دائرة النزاعات في المنطقة، من بوابة الحديث عن “المصالح المشتركة في مواجهة عدو مشترك”، وراحت تطرح ذاتها في عِداد الجهات المهدَّدة أمنياً من قبل إيران في البحر الأحمر وباب المندب، وهو ما يستدعي بنظرها إقامة “شراكة إقليمية أمنية” بين هذه الجهات..
ويمكن ملاحظة أنه ترتّب على الانقسام والنزاع الداخلي اليمني حدوث ثغرة تغري إسرائيل باستغلال هذا النزاع، بذريعة تحالف “أنصار الله” مع إيران، ومن ثمّ محاولة إقناع المعسكر الآخر بضرورة التعاون مع إسرائيل، لمواجهة ما تسميه إسرائيل “العدو الإيراني- الحوثي” المشترك. وفي ذلك تتبنى إسرائيل قوساً من العوامل الذاتية والموضوعية، يتعذر فيها الفصل بين المكونات الاقتصادية والأمنية.. كيف؟
(4) للتوسع، انظر:
David Ben-Gurion ,Israel: Years of Challenge ,Publisher :Massadah (1963),1st. edition, P.5
(5) عميرام بركات، إسرائيل تنقل بضائع بعشرات المليارات عبر باب المندب، موقع غلوبس26/3/2015
עמירם ברקת، ישראל מעבירה סחורות בעשרות מיליארדים דרך באב-אל-מנדב
https://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1001022764
(6) شاؤول شاي، المعركة في البحر الأحمر العربي، يسرائيل هيوم 2/10/2017
שאול שי، המערכה בים האדום הערבי،
http://www.israelhayom.co.il/opinion/506969
(7) نوعا شبيغل، نتنياهو: إسرائيل ستكون جزءاً من تحالف يمنع إيران من قطع مسار الشحن في البحر الأحمر، هآرتس1/8/2018
נעה שפיגל، נתניהו: ישראל תהיה חלק מקואליציה שתמנע מאיראן לחסום את נתיב השיט בים סוף
https://www.haaretz.co.il/news/politics/1.6338303
(8) المصدر السابق ذاته