لا تعود أسباب الانقسامات في كيان الاحتلال الى أزمة تشريعية، عنوانها اليوم التعديلات القضائية، بل إنّ الانقسام سمّة جوهرية في البنية التركيبية لهذا الكيان. هو أشبه بقطع أحجية (Puzzel) لكنها لن تتحد أبدًا، بل تبقى تتناحر فيما بينها.
القوميات اليهودية
إنّ المجتمع اليهودي، هو خليط من قوميات عرقية: السفرديم (اليهود الشرقيون)، الأشكناز (اليهود الغربيون)، اليهود السود (الاثيوبيون ويقال لهم “فلاشا”، والأمريكيون من أصل إفريقي)، بالإضافة الى يهود قدموا من روسيا، وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية، واليهود من أصل عربي.
التيارات المتباينة
تنقسم هذه القوميات في توجهاتها وأفكارها الى تيارات، أبرزها:
_ التيار العلماني
_ التيار اليميني الليبرالي
_ التيار الديني المتطرّف، وأهمّ فئاته هم الحريديم
_ وجد قديمًا التيار الاشتراكي لكنّه اختفى في العام 2006.
القبائل الاربع
فيما، اشتهر رئيس الكيان السابق رؤوفين ريفلين، بتحديد الخطر على “المجتمع الإسرائيلي” بسبب انقسامه الى “أربع قبائل متباعدة ومختلفة بجوهرها”، هي: علمانيون، ومتدينون الصهيونيون، ومتدينون أصوليون (حريديم) وعرب.
في ذلك الخطاب عام 2015، الذي عرف بعنوان “النظام الإسرائيلي الجديد”، حذر “ريفلين” من تغير “بنية المجتمع الإسرائيلي”، ومن أن الأنظمة الأساسية التي تصيغ الوعي وتصنع القرار، هي “أنظمة قبلية وانفصالية ويبدو أنها ستستمر”. وأوضح “النظام الإسرائيلي الجديد ليس تشخيصًا سوسيولوجيًا إبداعيًا، بل هو واقع تترتب عليه انعكاسات مهمة على المناعة القومية لإسرائيل وعلى مستقبلها”.
صعود تيار على حساب آخر
ذكر “ريفلين”، آنذاك حصّة كل “قبيلة” من “النسيج الإسرائيلي”، اذ شكّل العلمانيون 38%، والمتدينون الصهيونيون 15%، فيما شكّل اليهود المتدينون الأصوليون (الحريديم) 25% والعرب أيضًا 25%. وإنّ نسب الحريديم الآخذة بالارتفاع، تمثّل صلب الانقسام والصراع الداخلي الإسرائيلي.
الصراع العلماني – الديني: تآكل الديمقراطية
يتكاثر الحريديم بوتيرة سريعة. وهذا ما يعزّز حضورهم السياسي. وفقًا لبيانات دائرة الإحصاء المركزية للاحتلال يتضاعف عددهم كل 10 أعوام، ومن المرجّح أن تكون نسبتهم عام 2028 أكثر من خمس المستوطنين، وفي عام 2059 يتوقع أن تصل نسبتهم الى 34.6% من إجمالي عدد السكان.
يعود ذلك، الى معتقداتهم الدينية التي تحثّ على الإنجاب. يبلغ متوسط عدد المواليد في الأسرة الحريدية 10 أطفال فما فوق. ويتزوج 85% من الرجال الحريديم من “المجتمع” نفسه. في هذا الصدد أشار الكاتب روغل آلفر في صحيفة “هآرتس” العبرية، الى أنّ” نسبة الولادات الحريدية مشكلة تُهدّد وجود إسرائيل”، ويرى أنّ “إسرائيل الليبرالية والعلمانية، لن تصمد مع نسبة الولادات الحريدية في العقود المقبلة. وأضاف “آلفر” أنّ “الجمهور الحريدي يستخدم الولادات سلاحًا في حربه على الجمهور العلماني للسيطرة على إسرائيل، لذلك يخشى الجمهور العلماني التمدد الحريدي الحثيث”.
تنعكس الزيادة في الأعداد، وبالتالي نسب المشاركة في الاقتراع، زيادةً في حصة المقاعد في “الكنيست”. وفقًا للأرقام السابقة، فهذا يعني أن أحزاب الحريديم سيتوسّع تمثيلها بمقعدين اثنين في كل أربع سنوات (موعد الدورة الانتخابية). في الانتخابات الأخيرة، حصلت الأحزاب الحريدية الحالية: “شاس” للحريديم السفارديم، و”يهدوت هتوراه” للحريديم الأشكناز، على 21 مقعدًا في الكنيست 25، مقابل 17 مقعدًا في الكنيست 22 و17 مقعدًا في انتخابات عام 2019، بينما كانت حصتهم في العام 2015 14 مقعدًا.
تضاعف التمثيل في “الكنيست”، يسمح للحريديم ببناء قوة سياسية كبيرة في الوزن والتأثير، وإيجاد الطرق لتمدّد نفوذهم في الكيان الإسرائيلي ومفاصله. وهو ما يخلق صراعًا علمانيًا – دينيًا من شأنه أنّ يغيّر “هوية” هذا الكيان. فانطلاقًا من أيديولوجيّتهم وعقائدهم المتشدّدة، يختلف الحريديم مع العلمانيين بأمور تمسّ بنظام الحكم.
يرفض الحريديم “الديمقراطية” والحكم المؤسساتي، عبر المحاكم والكنيست والجيش، ويفضلون الحكم بالتوراة. وفي هذا السياق زعم الحاخام اليعازر شاخ أن الديموقراطية “مرض عصي على العلاج، إنها مرض خطير يدمر الجسم والروح”.
يتطابق ذلك مع الأحداث الأخيرة في كيان الاحتلال، على خلفية رفض الأحزاب اليسارية العلمانية “قانون الإصلاحات القضائية”، الذي يجعل الحكم في قبضة اليمين المتطرّف، ويقوّض صلاحية مؤسسة القضاء، وينصّب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو زعيمًا لا يمكن عزله أو محاسبته. ترى المعارضة أن ذلك يمسّ بديمقراطية الكيان ويحوّله الى نظام ديكتاتوري، تحكمه الثيوقراطية.
“العلمانيون حمير المتدينين”: نمو الطبقية
بذلك، يستثني الحريديم أنفسهم من الانخراط في العمل المؤسساتي، وفي الإنتاج والعودة بمردود الى الكيان وخزينته، مع رفض الخدمة في الجيش والمطالبة بالامتيازات على مختلف الصعد، الى أنّ تشكّلت قناعة لدى العلمانيين – المكوّن الأساسي في المؤسسات المتنوعة – أنهم يخدمون الحريديم. وفي مقال لصحيفة “هآرتس” العبرية أوضحت، أمام هذا الواقع الذي يفرضه الحريديم، بأنّ “العلمانيين باتوا حمير المتدينين”. وفي ذلك إشارة الى نمو الطبقية في الكيان الإسرائيلي.
كذلك يرفض الحريديم “التعايش” مع العلمانيين بينما قد تُظهر الفئات الأخرى بعض الليونة في فكرة “التعايش”. وقد استوطن الحريديم في تجمعات ومستوطنات خاصة، لا يدخلها غيرهم. بالإضافة الى سيطرة النظرة المتشدّدة على مختلف جوانب الحياة.
ظاهرة التعددية الحزبية: إحدى أوجه الصراع الداخلي
مشكلة أخرى، تنتج عن تفتت “المجتمع الإسرائيلي” جراء تعدّد التيارات والقوميات. فلدى هذه الأخيرة نزعة نحو الإفراط في التحزّب. وهذا يعتبر نتيجة بديهة للتباين الكبير في التوجهات الدينية والفكرية والثقافية. أرادت كلّ مجموعة أن تعبّر عن نفسها في حزب سياسي. ويُشار الى أنّ بعض الأحزاب نشأت كرد فعل على ممارسات أحزاب أخرى.
عزّزت طبيعة النظام الانتخابي النسبي الذي يكفل التمثيل في “الكنيست” بشكل يتناسب مع حجم كلّ حزب، ظاهرة تعدد الأحزاب. وقد تُخلق أحزاب أو تحالفات جديدة قبل موعد كلّ دورة انتخاب “كنيست” جديد. وقد لوحظت التحالفات الجديدة بين بعض الفئات في السنوات الأخيرة التي سادت فيها الأزمة السياسية وخوض 5 انتخابات خلال 4 أعوام.
لا تهدف هذه الأحزاب فقط الى الفوز بالمقاعد، إنما تقوم بعدة نشاطات، تشمل كافة مجالات “المجتمع”: من سياسية، والاقتصادية واجتماعية، وثقافية، وفنية، ورياضية، وغيرها. فالحزب هو المسؤول عن إدارة الحملات الانتخابية، وتقديم مرشحيه فيها، ويوفر الاستيطان لأعضائه، ويدير الشركات والأعمال التجارية، والصناعية. كما يشرف على مستوطنات زراعية، ومستشفيات ومصحات ومدارس. ويصدر عن الحزب نشرات ثقافية، ومجلات وجرائد ووسائل إعلام، تعبّر عن أفكاره. لذا تسيطر الأحزاب على “المجتمع الإسرائيلي” وعلى الفرد.
تشترك هذه التيارات والأحزاب، على تنوّعها، ببعض المبادئ الرئيسة، مثل الأيديولوجية الصهونية والتمسّك وإقامة “وطن لليهود” على أرض فلسطين المحتلّة. وإنّ كلّ هذه الأحزاب كانت قبل قيام الكيان الإسرائيلي عام 1948 ميليشيات وعصابات، ثمّ تجمّعت بعد ذلك في “الجيش الإسرائيلي”. تتلقى هذه الفئات دعمًا معنويًا وتمويلًا ماليًا من فروعها في الخارج أو من المنظمات اليهودية المنتشرة في العالم.
قطع الفسيفساء الإسرائيلية هذه، لا تنتهي أزماتها. يتجسّد الانقسام كذلك في العنصرية والطبقية بين القوميات ولا سيما “الفلاشا” (الأكثر معاناةً من العنصرية) ثمّ بين قوميتي الحريديم أنفسهم، اذ هناك اختلاف في ظروف الأشكناز مقابل السفرديم.
ستكون هذه الأزمات موضوع مقالات مقبلة.