لطالما اعتقدت واشنطن أن أميركا اللاتينية هي حديقتها الخلفية؛ بمعنى أنها تريدها تابعا لها, وأن يكون حكّامها ببغاوات لسيد البيت الأبيض! من هنا, لا تتصور واشنطن حاكما لدولة في أميركا اللاتينية والكاريبي مخالفا لسياساتها. ولأن العالم يتغيّر بالطبع, والتاريخ يسير في اتجاه واحد, إلى الأمام دوما. تعي الشعوب مصالحها, فتختار حكامها الذين تقتنع بصدقهم وحرصهم على مصالح الشعوب, وأن السياسات التي يتخذونها تنبع من قناعاتهم, وأنهم لا يقبلون إملاءات من أحد, حتى لو كان رئيس القوة الأعظم في العالم! لذلك تنزعج واشنطن طيلة الأحيان, حين تجري متغيرات في بلدان حديقتها الخلفية, لا تتماهى مع تصوراتها وتوجهاتها. بالطبع, بإمكان واشنطن أن تنسج أفضل العلاقات مع كل حكام دول أميركا اللاتينية, أيا كانت اتجاهاتهم السياسية, لكنها ترفض التعامل بهذا المبدأ, هي تؤمن بمعادلة السيد والمسود! لذا وبالتلازم مع التغييرات التي لا تتلاءم مع استراتيجيتها, تبدأ أجهزتها الاستخباراتية والأمنية وجيشها القوي التخطيط لاستبدال هذا الحاكم أو ذاك, في هذا البلد أو ذاك حتى ولو بالقوة, بآخر مطيع لإملاءاتها من المسبّحين بحمدها.
هذا ما يحدث الآن في فنزويلا بین رئیس شرعي مدعوم من شعبه ومن الجيش, وجاء إلى الرئاسة بانتخابات شرعية. وآخر يعمل رئيسا لمجلس النواب, وفجأة أعلن نفسه رئيسا! فسارعت واشنطن والدول الحليفة لها في أميركا اللاتينية والعالم, بما فيها دولة الكيان الصهيوني إلى تأييده. فجأة أصابت فنزویلا أزمة سیاسیة ساخنة وضعت البلاد في لیلة وضحا?ا بین مدافعين عن زعیم المعارضة الذي نصّب نفسه رئیسا مؤقتا للبلاد, ومعارضين للانقلاب على الرئیس الحاالي نیكولاس مادورو. معروف أن فنزويلا هي بلد نفطي, وثلث نفطه تستورده الولايات المتحدة, وقد امتنعت منذ جاء مادورو إلى السلطة بعد الانتخابات الأخيرة, عن دفع سعر النفط الذي تستورده! الأمر الذي أدّى إلى ظهور تضخم كبير في فنزويلا. معروف, أنه في عام 1992 تعرضت فنزويلا لأزمة اقتصادیة ضخمة نتیجة السیاسات الأمیركیة أيضا, نتج عنها ازدياد الفقر, وارتفاع نسبة البطالة وغلاء أسعار حتى السلع الرئيسية. أيضا عام 1998 شهدت فنزویلا أزمة اقتصادیة ثانیة, وجرت انتخابات رئاسیة, فاز بها هوجو تشافیز. عام 2002 تمت الإطاحة به عبر انقلاب خططت له المخابرات المركزية الأمیركیة, واعتقل ونفي إلى إحدى الجزر, لكن المجموعات الشعبیة المسلحة وعناصر من الجیش خرجت إلى الشوارع وتمكنوا من إعادته إلى السلطة. استمر تشافیز في السلطة إلى أن أصیب بمرض خبيث وفارق الحیاة عام 2013. لكنه قبل وفاته أوصى الشعب الفنزویلي بانتخاب نیكولاس مادورو رئیسا لفنزويلا.
استمرت حالة التوتر في العلاقات بین واشنطن وكاراكاس إلى أن جرى انتخاب مادورو للمرة الثانیة عام 2018, فقررت واشنطن أن تمنعه من استكمال ولایته وإسقاطه مستخدمة سلاح البترول, فاستخدمت نفوذها للتأثیر على سعر النفط حیث انخفض السعر بنسبة ستین بالمئة, فخسرت فنزویلا أكثر من نصف صادراتها. نتج عن ذلك أن وصل التضخم إلى مستوى خیالي, وتضاعفت الأسعار كثيرا, فغادر فنزویليون كثيرون بلادهم. أدى هذا إلى نجاح المعارضة الفنزویلیة في الانتخابات البرلمانیة, وكان من بین الفائزین خوان جوایدو الذي انتخب رئیسا للبرلمان, فأصبح هناك برلمان یمیني موالٍ لواشنطن, ورئیس وحكومة یساریة في فنزويلا.
الثابت تاريخيا أن واشنطن دعمت حكم الجنرالات في أكثر من دولة لاتينية, وفي أكثر من عهد, فهي لا تطيق وجود دولة حرة مستقلة في أميركا اللاتينية, أو نظام اشتراكي معارض للرأسمالية الأميركية المتوحشة. صفحات التاريخ حافلة بالتجارب المرة المتمثلة بسلسلة من الاغتيالات والانقلابات حدثت ضد السلطات الشرعية في دول أميركا اللاتينية بدعم وتمويل وتحريض من واشنطن. نذكّر بالانقلاب على الحكم الشرعي في تشيلي وقتل الرئيس الاشتراكي المنتخب سلفادور الليندي, وتنصيب ودعم سلطة الجنرال الديكتاتور بينوشيت في العام 1973. وبعدها, في العام 1981 تم اغتيال رئيس الإكوادور جيمي رولدوس بإحراق طائرته, وفي العام نفسه تم اغتيال رئيس بنما اليساري عمر توريخيس بحادث تحطم طائرة مدبّر.أما الزعيم الراحل كاسترو فقد نجا من محاولات الاغتيال عشرات المرات, بعد فشل عملية غزو خليج الخنازير في عام 1961. نذكّر بالمتاعب التي واجهها الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا الذي أنقذ البرازيل من الإفلاس وبنى اقتصادا قويا منافسا, كما الرئيسة ديلما روسيف. لقد حركت واشنطن المعارضة اليمينية ضدهما وضد النظام اليساري عموما في البرازيل, حتى تمكنت نت إيصال تابعها جائير بولسونارو إلى السلطة, وقبل ذلك تم تطبيق هذا السيناريو في نيكاراجوا حيث أنهت واشنطن الحكم الاشتراكي بإسقاط الرئيس أورتيجا اليساري بدعم وتمويل التمرد اليميني في العام 1989 ولكن أورتيجا عاد إلى الحكم بأصوات شعبه وبانتخابات ديمقراطية.
الرئيس مادورو فاز بانتخابات ديموقراطية رغم النكران الأميركي والنفاق الأوروبي, ولكن الرئيس ترامب أراد صرف الأنظار عن مشكلاته الداخلية, وتصدير الأزمة إلى فنزويلا, ليس لأن النظام في كراكاس يساري اشتراكي فحسب, بل لأن الرئيس ترامب يريد امتلاك نفط فنزويلا والتحكم بتوزيعه, إضافة إلى موقف القيادة الفنزويلية السياسي الثابت المعادي لإسرائيل, وتأييدها المطلق لقضية الشعب الفلسطيني والقضايا العربية, وهي الأسباب التي أدت إلى غزو العراق في العام 2003. إن التدخل الأميركي في الشأن الداخلي في فنزويلا, وفرض العقوبات والحصار الاقتصادي, والتحريض على الرئيس الشرعي المنتخب, ربما سيجر فنزويلا إلى حرب أهلية دامية من خلال الفوضى الخلاقة الأميركية الصنع, إضافة إلى إحداث انقسام في النظام العالمي, وإعادة أجواء التوتر إلى العلاقات الدولية. هذه هي أميركا ترامب.
Discussion about this post