فجر الرئيس الروسي مفاجأة عبر طرح موضوع اتفاقية أضنة أمام الصحفيين، رداً على سؤال حول موقف موسكو من الاتصالات الأميركية- التركية الخاصة بإنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري، كاشفاً عن تناوله للملف خلال لقائه مع «صديقه» الرئيس التركي.
«مفاجأة» بوتين هذه، تصدرت نتائج اللقاء وعناوين أخباره، مقابل تراجع باقي محاور الاجتماع الخاصة بالملف السوري، والملفات الاقتصادية التي حظيت بمساحة أكبر، هذه المرة، مقارنة مع المؤتمرات السابقة، إلى المرتبة الثانية من حيث الاهتمام الإعلامي، في لقاء «قمة» ساد على مؤتمرها الصحفي جو من الحميمية الواضحة التي تجلت في الإطراءات المتبادلة بين الرئيسين للمرة الأولى بهذا الشكل.
الطرح الروسي بمضمونه وتوقيته وسياق الإعلان عنه، لا يمكن فهمه سوى كإشارة إلى ما دار على مدى ساعتين خلف الأبواب الموصدة خلال أول لقاء بين الرئيسين لهذا العام، من رفض روسي لفرضية الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول المنطقة الآمنة بالطريقة التي تبناها أردوغان، بحجة تبديد هواجس أنقرة الأمنية، والاستعاضة عنها بآلية سياسية تحاورية مع الحكومة السورية، كما ينص عليه الاتفاق المذكور، لحل مشكلة «كانتون الأمر الواقع» الكردي في الجزيرة السورية، أو ما بات يسمى في اللغة الدبلوماسية الدولية بمصطلح «شرق الفرات».
هذا الرفض الروسي القاطع، ربما، دفع أردوغان ووزير خارجيته إلى تبني الطرح البديل والمتمثل باتفاقية أضنة، والترويج له في كل فرصة للإدلاء بتصريح أو خطاب، في محاولة لتصدير الفيتو الروسي كانتصار دبلوماسي من خلال اكتشاف «المفتاح» للتوغل إلى الأراضي السورية دون ضرورة «الحصول على الموافقات».
المعروف بأن اتفاق أضنة، أو «مصالحة أضنة» كما يحلو للأتراك تسميتها (Adana Mutabakat) هو اتفاق وقع بين الطرفين السوري والتركي بوساطة مصرية إيرانية قبل 21 عاماً كحل للخروج من الأزمة التي كادت تنفجر نتيجة استياء أنقرة من دعم دمشق لعناصر حزب العمال الكردستاني مقابل استياء الأخيرة من المحاولات التركية المتواصلة للضغط عليها عبر قطع مياه نهري الفرات ودجلة.
لذا فإن الاتفاق المذكور لا يغدو كونه أكثر من بروتوكول مخصص لمسألة محاربة حزب العمال الكردستاني، حيث يحتوي على تعهدات في فقرته الأولى وآليات تطبيق هذه التعهدات في فقرته الثانية بكافة تفاصيله الأمنية والعسكرية، والتي من بينها إنشاء خط أمني ساخن بين الطرفين وعقد اللقاءات الدورية بين قادة عسكريين في مواقع حدودية والخ.. ورغم بحثي المتواصل في المنشورات التركية، الرسمية كانت أم الإعلامية، لم أجد أي نص فيه يتعلق بترسيم الحدود أو التنازل عن لواء الاسكندورن السليب، كما تم ترويجه من قبل وسائل إعلام تركية في بداية الأزمة السورية وأخرى عربية خلال الأيام الماضية.
لست هنا في صدد نفي أو تبديد هذه الإشاعات، لأنه من بديهيات المنطق السليم ألا يتضمن بروتوكول موقع من قبل رئيس شعبة أمنية من الطرف السوري وسفير بمنصب نائب وكيل وزارة الخارجية من الطرف التركي موضوعاً حساساً من قبيل التنازل عن أراض أو حقوق جغرافية، إضافة إلى أن الفيديو الذي نشر مؤخراً على مواقع التواصل الاجتماعي لوزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم وحديثه حول العودة يوماً إلى اللواء السليب والذي انتشر في الداخل التركي، لم يقابله من طرف أنقرة بأي تصريح رسمي أو تسريب إعلامي حول وجود اتفاق يدعم هذه الإشاعات.
بالعودة إلى اتفاق أضنة، ورغم كل ما روج له الرئيس التركي بأنه يمنحه الحق بالدخول إلى الأراضي السورية لملاحقة الإرهاب، فإن الأهم في سياقه، هو التركيز على «التوسعة» أو «الملحق» الذي تضمنه اتفاق أنقرة الموقع بين وزير الخارجية السوري وليد المعلم ونظيره التركي آنذاك أحمد داوود أوغلو في كانون الأول من عام 2010 والذي قام البرلمان التركي بتصديقه في شباط عام 2011.
بداية يجدر الإشارة إلى أن النسخة التركية من الاتفاق المذكور، وهي النسخة المتوفرة بين يدي حالياً، تشير بوضوح في مقدمتها المعنونة بـ«السبب»، والمقصود فيه المسوغ لعقد هذه الاتفاقية، إلى أن اتفاق أنقرة الذي سمي «اتفاقية العمل المشترك بين حكومة الجمهورية التركية وحكومة الجمهورية العربية السورية لمواجهة الإرهاب والمنظمات الإرهابية» جاءت لتوسيع «مصالحة» أضنة و«إنشاء إطار» لجهود مكافحة الإرهاب والمنظمات الإرهابية حسب ما جاء فيها، كما تلحظ اتفاقية أنقرة، حسب ما ورد في بندها الأول اتفاقية العمل الأمني المشترك الموقع بين وزارتي الداخلية في كلا البلدين في عام 2009، والتي تم بموجبها رفع تأشيرات الدخول بين الجانبين آنذاك.
وتضمنت اتفاقية أنقرة الكثير من التفاصيل المتعلقة بتنسيق العمل والتشارك في مكافحة الإرهاب من قبل الجانبين وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتسليم الإرهابيين وفق آليات عمل حددت ضمنها، تبدأ بالخط الساخن بين الجانبين ولا تنتهي بالاجتماعات الدورية بين القادة الأمنيين والعسكريين لتقييم العمل.
تفاصيل هذه الاتفاقية في مضمونها وأصول تنفيذها دفعت بوتين، حسب رأيي، إلى التركيز عليها في معرض الحديث عن مصير الجزيرة السورية بعد الانسحاب الأميركي مردفاً ذلك بأمله في الحوار بين الكرد ودمشق.
إشارة تلقفها الإعلام التركي ببراعة، وتصدرت المقالات التي تتحدث عن ضرورة فتح قنوات الحوار مع دمشق في حال الرغبة الجادة في العمل تحت مظلة «اتفاقية أضنة»، والصحف والتلفزيونات المحسوبة على «السلطان العثماني»، والكل يطرح ذات السؤال البديهي؟ كيف يمكن لأنقرة التشبث باتفاقية أضنة وملحقاتها واعتبارها أرضية لأي إجراء لتبديد هواجسها الأمنية من تعاظم الخطر الكردي دون التنسيق مع دمشق في وقت لا يخلو بند فيها من الحديث عن العمل المشترك ويفرض آليات تحرك وعمل ثنائي؟
رغم محاولة وزير الخارجية التركي الالتفاف على هذا السؤال بتصريحه عن «بقاء أنقرة في اتصال غير مباشر مع دمشق» إلا أنه وبطبيعة الأحوال تبقى حجة ضعيفة أمام ما يمليه الاتفاق من خطوط اتصال ساخنة ولقاءات دورية بين الجانبين، ناهيك عن عدم التزام تركيا بتعهداتها وهي التي تحولت إلى حديقة خلفية للتنظيمات الإرهابية، بكل أشكالها، من تمويل وإدارة وتقديم الدعم اللوجستي من قبل المخابرات التركية بشكل مباشر.
الوطن السورية – سركيس قصارجيان
Discussion about this post