هذا العالم العربي الجميل، ما الذي أودى به إلى حالة الضعف والإرباك والقلق على مصيره كلما مرت السنون عليه. مصر هبة النيل وعبقرية المكان، والشام كلها بما نعرفه من أقطارها أحلى الأحلى، والمغرب العربي تتغنى به أصوات من زاروه .. إنه عالمنا الذي نظمت فيه أحلى القصائد، وقيلت فيه ما قيل من كلمات تليق به.
هو اليوم في مرحلة الغياب القسري، لكنه عالمنا في النهاية، مكاننا المنشود في رحلة عمره وعمرنا، عمره الذي من زمن الأرض ولم تتغير ملامحه، وعمرنا الذي تعاقبت عليه أجيال وأجيال .. وكلما قلنا فيه من تاريخ، ننتبه إلى حقيقة الجغرافيا التي يسكنها، وما يختزن فيها من خامات مدهشة، جعلته عرضة لتلك الصدمات المتكررة في حياته.
أذكر أني كتبت حتى الآن في صحيفتي هذه آلاف المقالات، ومن بينها إطلالتي الدائمة على عالمنا العربي بمحاسنه وسيئاته، بمتاعبه و”هدوئه”، وأضع الهدوء بين قوسين لأنه من غير المفيد الإشادة بما لم يحصل لا في السابق ولا في الحاضر ولن يكون بالتالي في المستقبل .. ثمة جريمة ارتكبت بحق شعب عربي أدت إلى نكبته الكبرى، وقيام كيان مصطنع مكانه سيظل أصل البلاء والمشكلة والانتقال من مآسٍ وأزمات إلى مثيلاتها.
لكن يظل عالمنا، أحيانا نطرد أنفسنا منه حين نمل أوجاعه، ثم نعود إليه ونحن بأمس الحاجة للعودة .. وكلما جن جنونه، وجدتنا نحمل حقائبنا ونمر على حد السكين، ثم لا يمضي زمن ما إلا ونكون فيه من جديد.
ليس لنا غيره، اعتدنا على التفاهم مع أزماته التي مصدرها الأكبر وجود إسرائيل، ثم الفقر والجهل والمرض والجوع .. فماذا يفعل العربي وهو غارق في هذه المحن التي لا يمكنه مداواتها نظرا لتكاليفها التي لا يملكها؟ إضافة إلى النقطة المركزية المهمة، أن الغرب لا يرضى له إلا أن يظل متأزما ويعيش مشاكله بلا توقف، كي لا يفكر كثيرا بغده، وإن فكر وتأمل فليس مسموحا أن ينفذ، وإن نفذ بعقل متفتح ممنهج ومميز فلسوف تلحقه السواطير الغربية أو ضغوطاتها، إن قبل الخروج من بلاده عاش يقدم خيرة عقله لهذا الغرب، وإن رفض قتلوه باسمهم. هو التاريخ الذي نشهد له دائما ولنا فيه شواهد كثيرة ومحطات ذات معنى.
عالمنا العربي، وجد ليبقى، كم هاجر منه ولم يعد إليه، لكن ظل يفدم هويته ذاتها ولا يتغير .. ملايين من العرب يعيشون في الغرب، لكن الأهم أن الغرب سكن فيهم لغة وإحساسا وتربية وبيئة وتقاليد وثقافة، من وصل إلى هذه الدرجة انمحت من عقله كل أسباب التفكير بمسقط رأس أجداده وآبائه .. في لبنان أربعة ملايين لبناني فقط، فيما في العالم ثمانية ملايين لبناني ومنهم الوزراء والرؤساء وأهل العلم والمعرفة والمفكرون ورجال الاقتصاد والمال وأصحاب المصانع ..
مرة اكتشف المفكر الليبي علي فهمي خشيم أن هنالك أصولا عربية في اللغة الإنجليزية وهي متوفرة بكثرة، وحين بدأ مشروعه بإعطاء الأدلة الكافية في هذا الاكتشاف المهم، تم منعه وهدد بالقتل، فصمت ثم رحل بعدها وأسدلت الستارة على أهم اكتشاف عالمي.
هذا عالمنا الذي لن نتركه، سنعض على أوجاعنا، لكننا لن نسلمه لمن تسلمه ذات يوم من عمره، فإذا به يقسمنا ويصنع وعدا لليهود ويظل إلى اليوم يلاحق أنفاسنا كي لا نتقدم أو نتحرر أو نصير أمة واحدة.
زهير ماجد – الوطن العمانية
Discussion about this post