“أرضُ الرَّملِ والموت”، بهذه الكلمات وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب، سوريا التي تحتل قواته جزءا من أراضيها، وتعمل على تقسيمها. ومِن المؤكد أن هذا الرئيس، يجهل الكثير الكثير عن “سوريا ـ السياسية” الحالية، المُنتَج الاستعماري، التآمري البريطاني ـ الفرنسي، مُنتَج التمزيق والتقسيم والتقزيم، موضوع الاتفاق المؤامرة، اتفاق أو معاهدة “سايكس ـ بيكو” عام ١٩١٦، ذلك المُنْتَج السياسي الذي هدَف إلى استعمار المنطقة، وقطع تواصل الوطن العربي، “مشرقه ومغربه”، أحدهما عن الآخر في قارتي آسيا وإفريقيا، وإنجاز إنشاء كيان العنصرية والإرهاب الصهيوني “إسرائيل”، في الجزء الجنوبي من سوريا الطبيعية، “فلسطين”، تنفيذا لوعد السيئ الذكر آرثر بلفور في ٢ تشرين الثاني/نوفمبر ١٩١٧، الأمر الذي قضى على وحدة بلاد الشام، أي سوريا الطبيعية، فأصبحت دولا أربع، “سوريا ولبنان وفلسطين والأردن”.
وترامب معذور في جهله، فهو لم يخلق للمعرفة والعدل والإنصاف، بل لجني المال بطرق شتى، ومناصرة الاحتلال الإسرائيلي القاتل، فهو يشم رائحة البترول والغاز والمال فقط، ويبحث عن الثروة، ولا يعنيه الآخر إلا بقدر بمقدار ما يدفع وما يخضع.. ولما لم يجد ضالته في سوريا التي ساهم في إشقاء شعبها وقتله، قال إنها “أرضُ رملٍ وموت”.
إنه يجهل تاريخ الآخرين وإسهامهم في الحضارة البشرية، فهو من دولة لا يزيد عمرها عن ثلاثمئة سنة، واستهدفت دولا بحروبها ومؤامراتها ومكائدها.
يتنكر الرئيس ترامب لحقيقة أنه وبلاده، ورؤساء أميركيين قبله، على رأسهم جورج W بوش، والعنصريون الصهاينة، هم من حاول تدمير سوريا بعد تدمير العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣، وأنهم هم من ساهم في جعل سوريا “أرض موت”، خلال سنوات ثمانٍ كارثيات مضَت، بتغذيتهم “للفوضى الخلاقة؟!”، والاستثمار في الإرهاب، وفي الفساد والإفساد، وشرائهم للضمائر، ونشرهم للفتنة الطائفية والعرقية وتعزيزها على أكثر من صعيد، واستمرارهم في العمل المنهجي لتقسيم المقسم في وطن العرب، وتنفيذ مشروع التمزيق الذي أسس له اليهودي ـ العنصري ـ الصهيوني السيئ الذكر برنارد لويس، وتابعه يهود صهاينة آخرون كثر، منهم الإسرائيلي “عوديد ينون” صاحب وثيقة “كيفونيم = اتجاهات” التي وضعها عام ١٩٨٢ وعمل عليها مع الإرهابي المجرم ارئيل شارون.. وفيها تخطيط تعمل إسرائيل والحركة الصهيونية بموجبه “لتفتيت البلدان العربية، عبر إثارة الحروب الدينية والمذهبية والطائفية في كل قطر عربي بوسائل مختلفة”.. وقد جاء في تلك الوثيقة، بشأن سوريا على الخصوص: “التخطيط لتقسيم سوريا إلى دويلات: عَلوية، ودرزية، وكردية، وسُنيّة، ودويلة مسيحية، أو ضم المسيحيين إلى الدويلة العلوية”.. وقد نشرت تلك الوثيقة في” مجلة كيفونيم Kivonim – اتجاهات” – عدد شباط 1982، تحت عنوان “استراتيجية إسرائيل للثمانينات”، وهي مجلة ناطقة باسم المنظمة الصهيونية العالمية في القدس.. وما زالت تلك استراتيجية مستمرة متجددة، لها خرائطها الموثقة، وتُطوَّر وتُتابع بأساليب متعددة من الصهاينة وحلفائهم الأميركيين، لا سيما الإنجيليين منهم على الخصوص، وفي مقدمتهم اليوم دونالد ترامب.
تجيء مخططات تمزيق سوريا قبل سواها من البدان العربية، وتقسيمها، للقضاء على وعي شعبها ووحدته، وعلى دورها القومي، ولإضعاف موقعها وموقفها السياسي والنضالي، لا سيما في مواجهة كيان الإرهاب والعنصرية والعدوان والاحتلال والقتل “إسرائيل”، ولجعلها عاجزة تماما عن تحرير الجولان، وعن مناصرة الشعب الفلسطيني في نيل حقوقه المشروعة، وعلى رأسها حق العودة، وتقرير مصيره بحرية، في وطنه التاريخي “فلسطين”، وعاصمته القدس.
إن سوريا التي لا يكاد يعرف الرئيس ترامب عنها شيئا، ليست بلْقعا، ولا هي تاريخيا “أرض رمل وموت”، بل هو وحلفاؤه وعملاؤه، وسوريون وعرب ضعاف الرأي وقصار النظر، ممن سقطوا في الفخ الذي نُصِبَ لهم هو والصهاينة.. هم من حولوا سوريا خلال السنوات الثماني الماضيات إلى مساحات فوضى، وساحات دمار، وإلى ما يسميه “أرض موت؟!”، بعدوانهم وهمجيتهم وانعدام المسؤولية والحس الأخلاقي والإنساني والقومي والوطني لديهم.. إن سوريا، بجبالها وسواحلها وأنهارها وسهولها الخصبة وبواديها، كانت قبل عدوانكم وتدخلكم، أرض إخاء وتسامح وتعايش وسلم، وهي أرض خير وعطاء، لم تعش على الحسنات والمُساعدات، ولم تخضع لقوى الاستعمار الغاشمة، ولم تستلم للمحتل والغازي والظالم والمستبد.. نعم إن فيها ما لا يُقبل، شأنها في ذلك شأن بلدان كثيرة في عالمنا المثير، ولكنها ليست مطلقا “أرض رملٍ وموت”.. وعليك أن تَذْكُر وتتذكر، أن الأجداد المؤسسين لأميركا قد حاربوا السكان الأصليين “للهنود الحمر، واصطادوهم”، بوصفهم “كنعانيين”، إنهم بالمقدس التلمودي ـ الصهيوني قتلوا الإنسان في أرض القارة الجديدة.. هناك وقائع عليك أن تذكرها، وقائع لم يفعلها العرب ولا المسلمون، ولا السوريون منهم بكل تأكيد، منها أن أرضك هي أرض الموت التاريخية، حيث قتل فيها أكثر من خمسين مليون ضحية من سكان الأرض الأصليين، قتلهم المؤسسون لأميركا الجديدة وهم يحملون الحق الصهيوني على العرب الكنعانيين، والكنعانيون هنا في سوريا وليس في الأميركتين.
إن سوريا الطبيعية، وسوريا السياسية الحالية (أيها الرئيس غير الموفق في الوصف)، متحف حضارات إنسانية في الهواء الطلق، من القدس إلى دمشق “جيرون”، ومن مملكة إيبلا إلى ماري.. ومن تدمر إلى بُصرى، ومن قلعة سمعان إلى قلعة الحِصِن، ومن.. إلى.. ومِن إلى.. ومن ما لا تعرف إلى أن يقيض الله لك أن تعرف.. حضارات تتباهى تحت ضوء الشمس، وتتكلم بلسان مبين، لم تسقط على هذه الأرض بالمظلات من كواكب أخرى، بل نشأت فيها، بسواعد بنيها، وعلى مر الأزمنة والأجيال، السوريون هنا بكل جذورهم ومشاربهم هم البناة والورثة، وهم أصحاب الأرض والتاريخ والحضارة، وهم العرب اليوم الذي كان تاريخهم جولان في أرضهم التاريخية.. سوريا تاريخ للاستقرار البشري والعمران، يمتد في المؤرَّخ المكتوب، وفي “الأركيولوجيا، وعلم الآثار.. من حاضرة “نَطُوف”، تلك السهول الخصبة قرب مدينة أريحا، جنوب سوريا المسمى اليوم “فلسطين”، “نَطُوف” التي كانت أول موطن استقرار وزراعة في هذه الأرض منذ عشرة آلاف سنة قبل الميلاد، وما زالت تنداح عطاء منذ ذلك، وقبل ذلك، وستبقى كذلك إلى أبد الآبدين، بعون الله.. إنها أرض الآموريين، أي” العرب الغربيين”، حسب أبحاث ودراسات وأنساب وتسميات، ساهم فيها علماء منهم غربيون، هي أرض الكنعانيين العرب الذين منهم الفينيقيون، أصحاب الأبجدية الأولى في التاريخ، بعد الكتابة المِسمارية، “أبجدية الفنيقيين في رأس شمرة، أوغاريت”، وهي أرض الآراميين، والسريان، أرض الثقافة الأولى التي يدين لها كل مثقف منصف بالفضل، لأنها أصل الأصل.. هي أرض هي أرض القمح والزيتون، اللبن والعسل، أرض الريحان والغار والورد الجُري والياسمين.. الأرض المباركة التي كان منها رُسُل، وبشر فيها رُسل، وانطلقت منها رسالات سماوية، ما زالت موضع إيمان مليارات من البشر.. إنها الأرض التي تتكلم العربية، أكثر اللغات البشرية غِنى ودقة وتواصل قديم بجديد، إن سوريا، “بلاد الشام”، هي من أهم معاقل العروبة والإسلام، فيها أسس الأمويون دولة عربية ـ إسلامية، امتدت حضارتها من شبه الجزيرة الأيبيرية “إسبانيا والبرتغال”، إلى مشارف الصين، عبر إفريقيا وآسيا.
معذورٌ السيد ترامب.. معذور، فهو لا يعرف، ولا يريد أن يعرف، ولن يتاح له أن يعرف.. فهو صيرفي أكثر منه معرفي، هو شايلوك العصر، غارق في موالاة كيان الاحتلال الإسرائيلي، وأكاد أسمعه ما زال يصرخ بـ”هايلي نيكي” التي غادرت منصبها في الأمم المتحدة منذ أيام، يصرخ “يا هايلي قولي لي من علينا أن نعاقب، من نأخذ أمواله؟!” ويبدو لي أن على الرئيس ترامب أن يتواضع قليلا، فليست الدنيا مالا وحسب، فقارون غادرها بلا مال.. وليست قوة وحسب فالفراعين ومن في حكمهم قديما وحديثا، وهتلر وموسوليني وستالين وروزفلت وماو وبوش الأب و.. و.. كل غادرها بلا جيوش ولا مستعمرات.. حتى الملك شين، مؤسس الصين، غادرها ودفن معه جيشه في مقبرة شيآن، ولم يترك غير التراب والآجر في تلك المقبرة في شيآن.. الكل سيغادر وتبقى القيم، ويبقى الإنسان.. وأظن أن من المفيد جدا أن يعرف قدره الثقافي، وقدر البلدان والشعوب الأخرى، قبل أن يقترب من التاريخ والشعوب والبلدان، ويطلق عليها أحكام قيمة.. وقبل أن يغادر مثله مثل سواه. أما نحن في سوريا خاصة، وفي أرض العرب عامة، فسنُبقي في أرضنا الخير، وسنعمل على إزالة آثار الموت والدمار والعار التي خلفتها حرب كارثية مجنونة، دارت في سوريا وعليها، بسبب من أبنائها وبأسباب من أعدائها.. حرب سببت لنا المآسي، وعانينا منها وما زلنا نعاني، وبسببها يتكلم عنا ترامب وغيره كلام المتعجرفين الشامتين، والجهلة المعتدين.. وسوريا التي جعلوها “أرض رمل وموت” كما يقول، لن تكون أرض موت، ولا هي كانت بتكوينها وإرادة شعبها، وبجغرافيتها وطبيعة إنسانها “أرض رمل وموت”، سوريا ستبقى أرض الخصب والحضارة، أرض العطاء والمحبة، أرض التسامح والتعايش والإنصاف والعدل والحرية.. بعون من الله، وبهمة الطيبين والشرفاء والأنقياء والملتزمين الأخلاقيين من أبنائها، الذين يرتفعون بأدائهم وأخلاقهم فوق المأساة، ويئدون الفتنة، ويعودون إلى دارهم، دار العروبة والإسلام، دار السوريين جميعا بمحبة ومودة واحترام.. لتستمر أرضهم، وأرض العرب أرض عطاء وبناء، أرض حضارة وحياة.
والله من وراء القصد.
علي عقلة عرسان – الوطن العمانية
Discussion about this post