رحل، الأربعاء، الدكتور محمد محفّل شيخ المؤرخين السوريين والعَلَامة العربية الفارقة في علوم التاريخ القديم، والخبير في تاريخ العمارة وسلوك ومعتقدات الجماعات الإنسانية القديمة عن عمر ناهز 90 عاماً.
وبينما تفقد المحافل الأكاديمية بموت الدكتور محفّل أحد أهم مراجع التاريخ التي يعتد بها وتدرس أبحاثها، تخسر الدراما العربية التاريخية، ولاسيما السورية منها برحيله عيونها الفاحصة للماضي، توثيقاً وتحليلاً، وصمام أمان الدقة في تفاصيل الفترات التاريخية التي تتناولها، إذ لطالما عمل الراحل مستشاراً درامياً ومدققاً تاريخياً لكبرى الإنتاجات الدرامية التي تعتمد حبكتها الرئيسية على أحداث تاريخية حقيقية، أو تعتمد في حبكاتها المتخيلة على توالي تلك الأحداث حتى لقب بحارس التاريخ في الدراما السورية.
ولد الراحل محفل في حلب عام 1928 وفيها تعلم وحصل على إجازة في التاريخ عام 1949 وعلى دبلوم في التربية وعلم النفس عام 1953.
وكانت الدراما التاريخية السورية قدمت نفسها، كمشروع فكري عالي المستوى، ميزته الرؤية الواعية لطريقة تناول الحدث التاريخي، والبحث عن ظلالها في واقعنا المعاصر بهدف تحفيز الفكر وإثارة أسئلة حياتنا الراهنة، وهو الأمر الذي أسهم فيه محفّل من خلال تقديم فهم وتقييم للتاريخ، وعبر الاهتمام الدقيق بالأحداث التاريخية التي ستؤدي وظيفتي التأثير والتبشير، وفق المنهج السوري لصناعة المسلسل التاريخي.
وتظهر بصمة محفّل مستشاراً ومدققاً تاريخياً، في التجسيد الدرامي الآسر للماضي كما قدمته الدراما السورية، وذلك من خلال عكس الحساسية الثقافية للفترة التاريخية التي يتم صنع مسلسل عنها، انطلاقاً من فهمه لمعنى الماضي وضبط حدود تفسيره في الدراما.
ومع ميل صناع الدراما السورية إلى بناء حبكات درامية إنسانية مشوقة تنمو إلى جانب الحدث التاريخي وتتشابك معه على نحو لم يعد العمل حكاية تاريخ بقدر ما هي حكاية الإنسان في ذلك التاريخ، برز دور الاستشارة الدرامية والتدقيق التاريخي، في تحقيق التوزان بين العالم الإبداعي المتخيل للمسلسل، وبين الوثيقة التاريخية، وهو الأمر الذي نجح فيه محفّل باعتباره مؤرخاً محترفاً، فقارب مهمته هذه بمسؤولية أخلاقية عالية تجاه التاريخ، ونظرة واقعية لحقيقة أن المسلسل في مجتمعاتنا العربية التي تخاصم القراءة، واحداً من مصادر المعرفة.
ارتبط اسم الراحل بمشاريع فنية كبيرة، قادتها شراكات فنية وإنتاجية طويلة الأمد أبرزها الشراكة الفنية بين المخرج حاتم علي والكاتب الدكتور وليد سيف، وشركة سورية الدولية للإنتاج الفني، التي أثمرت مسلسل "صلاح الدين" بالإضافة إلى مشروع المعالجة الدرامية لأهم مفاصل التاريخ الأندلسي : "صقر قريش" و"ربيع قرطبة" و"ملوك الطوائف".
وفي هذه المسلسلات الأربعة قدم محفّل الاستشارة الدرامية الخاصة بتوثيق الأحداث التاريخية، كما قام بتقديم الاستشارة التاريخية الدرامية لمسلسلات أخرى أبرزها مسلسل "الظاهر بيبرس" ومسلسل "عنترة بن شداد" بالإضافة إلى عدة أفلام منها فيلم "نوافذ الروح".
لم يكن الدكتور محمد محفل حارس التاريخ في الدراما العربية فقط، وإنما كان الأمين عليه في شتى الميادين، فقضى سنوات عمره التسعين في البحث والتأليف والتدريس في مجال التاريخ والآثار والعمارة في سورية والوطن العربي، وأسهم بمعرفته لعدد من لغات العالم القديمة والحديثة، في إغناء المكتبة العربية البحثية، ولاسيما في الجامعات منها، حتى بدا الأب الروحي للأكاديميين العاملين في ميدان التاريخ والعمارة والآثار، لسعة معارفه العلمية وقدراته العلمية وما امتلكه من دماثة العالم المتواضع، يشهد على ذلك حضوره الفاعل في الندوات العلمية التاريخية المحلية والعربية والعالمية، وعلاقته الخاصة والطيبة للحظات الأخيرة من عمره مع طلبة معهد شايو التابع لكلية العمارة بجامعة دمشق والذي يمنح منتسبيه شهادة ماجستير التأهيل والتخصص في مجال ترميم المباني التاريخية والمناطق الأثرية والعمرانية والطبيعية وتأهيلها.
وكما في أروقة الجامعات، كان الدكتور محفل مفكراً ومنظّراً في قضايا النهضة والحضارة العالمية، وواحدا من الوجوه العلمية التي نجحت في التنظير للمستقبل انطلاقاً من ربط الماضي والحاضر.
للدكتور محمد محفل مؤلفات عديدة: تاريخ الرومان، تاريخ اليونان، المدخل إلى اللغة الآرامية، تاريخ العمارة، الدولة والمجتمع في المغرب، دمشق: الأسطورة والتاريخ، من ذاكرة الحجر إلى ذكرى البشر.
Discussion about this post