أتى انعقاد قمة “مثلث فايمار” Weimar Triangle في برلين، في 15 مارس 2024 ، بهدف جمع قادة فرنسا وألمانيا وبولندا حول موقف موحد بعد الخلافات التي كشف عنها الصراع في أوكرانيا مؤخراً. وفي كافة المراحل السابقة كان التحالف الفرنسي–الألماني يشكل حجر الزاوية في مشروع الوحدة الأوروبية، غير أن انتعاش “مثلث فايمار” يكشف أن لهذا التنسيق الثلاثي دوراً مستقبلياً في مسألة بناء الإجماع حول القضايا الأوروبية المحورية.
دلالات جوهرية
يمكن استقراء الدلالات الكامنة من جراء إعادة تفعيل مثلث فايمار بالتالي:
1– إعادة التفكير في قضايا الدفاع المشترك الأوروبي: لم تكن أوروبا تتوقع على الإطلاق حصول حرب على أراضيها، ومن ثم فإنها لم تكن مستعدة لها؛ حيث كانت أولوياتها منصبَّة في مكان آخر، كالاهتمامات البيئية والمناخية والتعددية الثقافية وموضوعات الرعاية الاجتماعية. وأتت حرب روسيا ضد أوكرانيا، التي اندلعت في فبراير 2022، لتلفت نظرها بقوة إلى التحديات العسكرية التي تواجهها، والتي تهدد أمنها الجماعي، ولتدفعها نحو إعادة التفكير في قضايا الدفاع المشترك.
ويرى مراقبون أن هذه الحرب شكلت اللحظة التأسيسية للتوجه الاستراتيجي الجديد لأوروبا كقوة سياسية مستقلة، وأن عام 2024 الذي شهد إعادة إطلاق “مثلث فايمار” سيمثل نقطة التحول الجديدة في هذه الحرب، على حسب ما ذكرت جريدة تيغودنيك بوزيتشني البولندية في 18 مارس 2024.
2– الحاجة إلى زيادة الدعم لكييف: توصلت دوائر القرار في أوروبا إلى خلاصة مفادها أنه إذا فشلت أوروبا في منع هزيمة كييف فإن الكلفة التي ستنتج عن هذا الفشل، استراتيجياً واقتصادياً، ستكون أعلى بكثير من كلفة السلاح الذي يختلف الأوروبيون حالياً حول تقديمه لأوكرانيا. وحتى لو لم يكن هناك خطر وشيك لهجوم روسي على دول أوروبية أخرى، فإن هذا الفشل الأوروبي سيعزز من حصول هذا السيناريو بشكل كبير، على حسب ما استنتجت جريدة لا ستامبا (La Stampa) الإيطالية في 22 مارس 2024.
لذلك يتعين على أوروبا أن تفعل المزيد من أجل أوكرانيا، خصوصاً أن هناك قناعةً أوروبيةً بأن الدعم في شكله الحالي لن يكون قادراً على قلب المعادلة، وإنما سيسمح – في أفضل الأحوال – لأوكرانيا بالحفاظ على خطوطها الدفاعية. وترى بعض الآراء أنه يجب استغلال نقطة معينة، وهي خجل شركاء موسكو من الاعتراف بدعمهم لها واستغلالهم لضعفها الحالي من خلال شراء مواردها بأسعار زهيدة.
3– تعزيز سياسة الردع ضد روسيا: كما تعتبر أوساط أوروبية أن قيام محور “باريس–برلين–وارسو” يكتسب أهمية كبرى في مسألة تحقيق الردع مع روسيا، وأن الهدف من وراء إعادة إطلاقه هو تأجيل حسم أي صراع عسكري محتمل مع روسيا لأطول فترة ممكنة. ويأمل الأوروبيون أن يفضي ذلك إلى إطالة هذا التأجيل إلى ما بعد مغادرة بوتين المشهد السياسي في روسيا، بحيث يحدث التفاوض مع الرئيس الروسي الجديد الذي يأتي من بعده. وفي هذا السياق رأت صحيفة لوفيجارو الفرنسية في 19 مارس 2024 أنه لا يمكن اعتبار مثلث فايمار مناهضاً بشكل أساسي للشعب الروسي، ولا يتمثل طموحه في إلقاء الروسيين في أحضان الصين، وإنما العمل على المدى الطويل لإدخال الشعب الروسي داخل هيكل الأسرة الأوروبية بمجرد رحيل بوتين، كما كان لافتاً في هذا السياق التحذير الذي أطلقه الرئيس الفرنسي في 14 مارس 2024، حينما اعتبر أن حياة الفرنسيين ستتغير إذا انتصرت روسيا في أوكرانيا، ومن ثم فإنه يجب منع روسيا من الانتصار.
4– تراجع الثقة بالولايات المتحدة: كما أن إعادة إطلاق “مثلث فايمار” أتى بالتزامن مع تقاطع توجهين أوروبيين كبيرين: الأول هو خشية الأوروبيين من الأطماع الروسية التوسعية، والثاني هو انخفاض منسوب الثقة بالشريك الأمريكي. وهذا التزامن دفع الأوروبيين نحو العمل على تطوير صناعاتهم الدفاعية، وتعزيز تحالفاتهم. وفي هذا السياق، استنتجت صحيفة (Phileleftheros) القبرصية، في 17 مارس 2024، أن فقدان الحماية الأمريكية سيؤدي إلى إصابة أوروبا بالشلل، كما اعتبرت صحيفة (Naftemporiki) اليونانية أن مكانة الولايات المتحدة في العالم تتراجع بشكل عام.
5– الاستفادة من عودة الشريك البولندي الموثوق: كانت نسبة وازنة من الآراء ترى في حكومة حزب القانون والعدالة في بولندا شوكة في خاصرة أوروبا. ولقد شكَّل فوز الأغلبية الجديدة بقيادة دونالد توسك حدثاً مفصلياً بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي الذي استعاد شريكاً أكثر موثوقيةً؛ حيث اعتبرت صحيفة (Helsingin Sanomat) الفنلندية في هذا المجال أن بولندا الديمقراطية هي أكثر من حاجة ملحة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، كما توقعت صحيفة (El País) الإسبانية في 13 ديسمبر 2023 أن فوز دوناك توسك الأوروبي المثالي، يبعث رسالة أمل؛ لأن بولندا واحدة من أكبر الدول ذات الأهمية الاستراتيجية في الاتحاد الأوروبي. ولقد تفاءل العديد من المراقبين بالخطابات الصادرة عن توسك بعد الفوز، التي أعلن فيها أن قوة وسيادة بولندا تعتمد على قوة وسيادة أوروبا الموحدة.
6– استغلال التباينات داخل مجموعة فيسيجراد: منذ بداية الحرب في أوكرانيا، أثارت مواقف فيكتور أوربان المؤيدة لروسيا استياء أوروبيا. وأدى فوز روبرت فيكو في سلوفاكيا إلى دعم وضعية أوربان داخل مجموعة فيسيجراد (Visegrád) التي تضم بجانب المجر وسلوفاكيا كلاً من بولندا والتشيك. ومن ثم جاء فوز دونالد توسك في بولندا إلى إعادة التوازن داخل هذه المجموعة، وشكَّل تقارب بولندا مع جمهورية التشيك حداً لمحاولات تشكيل محور أوروبي مُوازٍ لتوجهات بروكسل. ولقد اعتبرت صحيفة (Sme) السلوفاكية في 28 فبراير 2024 أن قمة هذه المجموعة التي عُقدت مؤخراً في براج، أظهرت مدى البرودة في العلاقة بين قادة هذه المجموعة، وأنه ليس هناك حد أدنى من التوافق حول المسألة الأساسية في الوقت الراهن. وتحاول بولندا أن تستخدم هذه المجموعة بدقة لجعل توجهاتها تدور ضمن توجهات الاتحاد الأوروبي.
التعاون الأوروبي
قد تتجلى تأثيرات هذا التنسيق الثلاثي على مستقبل الجهود الدفاعية الأوروبية المشتركة من خلال رصد تطور الديناميات التالية التي أطلقها داخل الفضاء الأوروبي، ويمكن تناول انعكاسات تفعيل مثلث فايمار من خلال ما يلي:
1– تجاوز التباينات الألمانية–الفرنسية: في الوقت الذي اتجهت فيه العلاقات بين زعيمَي أكبر دولتَين في الاتحاد الأوروبي – أي ألمانيا وفرنسا – لتصبح أكثر توتراً بعد سلسلة من الانتقادات المتبادلة بين الطرفين بشأن الدعم العسكري لأوكرانيا خلال الأسابيع الأخيرة؛ عُقدت الآمال في التوصل إلى انفراج في العلاقة مع التئام قمة مثلث فايمار في برلين. واعتُبرت فكرة إرسال قوات عسكرية إلى أوكرانيا، التي أثارها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمر دعم أوكرانيا في باريس في 26 فبراير 2024، إحدى أكبر النقاط الخلافية بين الدولتين، وهي الفكرة المرفوضة بشدة من قبل المستشار الألماني أولاف شولتز.
وتمت مناقشة هذا الموضوع بحضور رئيس الوزراء البولندي توسك الذي عمل على دفع كلا الزعيمين نحو العمل معاً بكل انسجام. وترى بعض القراءات أن “الثقافة الاستراتيجية” (Culture Stratégique) المختلفة بين فرنسا وألمانيا يمكن أن تجعل من عملية التوصل إلى مواقف مشتركة عملاً شائكاً للغاية؛ لذلك فإنه لضبط هذه المسألة على المدى الطويل، سيتحول “مثلث فايمار”، في ظل وجود دونالد توسك، إلى آلية عمل لتجنب الجمود بين شولتز وماكرون.
2– التخفيف من المبالغة الفرنسية في الملف الأوكراني: تكررت في الآونة الأخيرة الانتقادات الرسمية الفرنسية لحلفائها فيما يخص الدعم الأوكراني؛ حيث اعتبر ماكرون، في 5 مارس 2024، أثناء وجوده في براج، أنه على حلفاء أوكرانيا التخلي عن كونهم جبناء؛ الأمر الذي أثار انزعاج شولتز أيضاً، كما شدد ماكرون خلال لقاء متلفز على قناة TF1 في 14 مارس 2024 على أن اختيار درب السلام لا يعني القبول بالهزيمة.
وهذا التصعيد في نبرة الخطاب السياسي للرئيس الفرنسي، دفع جريدة لوموند إلى تخصيص مقال كامل في 14 مارس 2024 من أجل تحليل أسباب تحوُّل ماكرون من حمامة إلى صقر في مواجهة روسيا، من بداية الأزمة في أوكرانيا إلى الآن. وتُلاحِظ بعض المصادر الأوروبية أن القرارات الصادرة عن قمة مثلث فايمار في 15 مارس 2024، حملت بعض التنازلات الفرنسية، كإعلان الزعماء الثلاثة (شولتز وماكرون وتوتسك) أنه للعثور على معدات عسكرية لأوكرانيا، يجب إنشاء شبكة واسعة للحصول على الإمدادات من جميع أنحاء العالم، في تجاوز للموقف الفرنسي الذي كان يصر على أن الأسلحة يجب أن تكون صناعة أوروبية، على حسب ما ذكرت موقع RFI المخصص للغة الرومانية في 18 مارس 2024.
3– معالجة التردد الألماني تجاه قضايا الدفاع في أوروبا: يعتبر مراقبون أن التباين بين باريس وبرلين فيما يتعلق بالمسائل الدفاعية له جذور عميقة، ويحاولون تفسير ذلك بالعودة إلى ما ذكره المفكر الألماني بيتر سلوترديك في كتابه “نظرية ما بعد الحرب” الذي اعتبر فيه أنه في الوقت الذي ما زالت فيه فرنسا مستسلمةً لخيال مشاركتها في صناعة النصر في الحرب العالمية الثانية، ولاعتبار نفسها قوة ذات نفوذ عالمي؛ فإن ألمانيا تعلمت التواضع الجيوسياسي. ويشعر العديد من الأوروبيين بالقلق إزاء تردد برلين في الاضطلاع بدورها الجيوسياسي الذي يتناسب مع حجمها. ويُلاحِظ بعض المراقبين أن تغيراً ملحوظاً قد طرأ على السلوك الألماني بعد قمة “مثلث فايمار” الأخيرة؛ حيث توافق الثلاثي الألماني–الفرنسي–البولندي على استخدام الأصول الروسية المجمدة في أوروبا من أجل تمويل قرار زيادة إنتاج الأسلحة الموجهة لدعم أوكرانيا، وهو ما يُعتبر تغييراً في موقف برلين، كما أن إعادة انتخاب دونالد ترامب المحتملة في نوفمبر القادم ستُساهم في إحداث تحول جذري في الذهنية الألمانية، بحيث ستُبعد ألمانيا عن الولايات المتحدة، وتُقرِّبها من فرنسا؛ الأمر الذي من شأنه أن يقلل المخاوف الفرنسية بشأن تركيز ألمانيا على الشراكة الأمنية مع حلف شمال الأطلسي.
4– الدفع نحو الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية: إن التقاء الإرادات الثلاثة داخل مثلث فايمار على أرضية مشتركة واحدة، من شأنه أن يؤسس لمرحلة جديدة من الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية؛ حيث تنفق بولندا أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو رقم أوروبي قياسي.
ويَعتبِر بعض المراقبين أن الجيش البولندي سيُصبح قريباً الأقوى في أوروبا من حيث القوات البرية والتقليدية، خصوصاً بعد عزمه شراء أكثر من ألف دبابة من الولايات المتحدة ومن كوريا الجنوبية؛ ما سيشكل تكاملاً مفصلياً مع القوات الفرنسية التي تتمثل نقاط قوتها في امتلاكها الردع النووي والدراية التقنية والخبرة في التدخلات الخارجية، كما أن أولاف شولتز بدأ بالتحضير لحقبة جديدة اعتباراً من فبراير 2022 عبر تخصيص 100 مليار يورو لبناء المتطلبات الدفاعية الألمانية. واعتبرت صحيفة (Le Soir) البلجيكية، في 16 مارس 2024، أن صورة الأيدي المشدودة للزعماء الثلاثة: شولتز وماكرون وتوسك، أعطت روحاً للوحدة الأوروبية، وهو أمر أكثر من أساسي؛ من أجل التصدي للقبضة الحديدية التي تهدد أمن الأوروبيين في هذه المرحلة.
ختاماً.. على المدى القصير، يُسلط تنشيط هذا التنسيق الثلاثي، الذي عَرف فترة من التراجع أثناء حكم القوميين لبولندا؛ الضوء على قدرته على التعامل مع وجهات النظر المتباينة بين فرنسا وألمانيا، الناتجة عن الاختلافات في الثقافة الاستراتيجية وعمليات صنع القرار في كلٍّ من هاتَين الدولتين. وعلى المديين المتوسط والطويل، قد يدفع هذا المثلث بمشروع “الاستقلالية الاستراتيجية” الأوروبي إلى الأمام.