رفع الكيان الاسرائيلي مستوى التصعيد مع القوى المناوئة له حيث شن أعنف ضربات عسكرية منذ ثلاث سنوات، والأكثر دموية منذ بداية الحرب الحالية في قطاع غزة. وقد أسفرت هذه الضربات، التي استهدفت مواقع في مدينة حلب السورية، عن استشهاد 52 شخصاً
ولا ينفصل هذا التحول الملحوظ في التصعيد العسكري عن جملة من المتغيرات الرئيسية التي يأتي في مقدمتها استمرار الدعم العسكري الإيراني للدولة السورية ، واستعداد حزب الله لاحتمال الانخراط في حرب مباشرة مع الكيان الاسرائيلي في مرحلة ما بعد انتهاء الحرب في غزة، فضلاً عن التغير المستمر في التوازنات السياسية داخل الكيان الاسرائيلي نتيجة تصاعد الانتقادات والحملات المتبادلة بين رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وخصومه السياسيين.
أهداف رئيسية
رغم قيام الكيان الاسرائيلي بين حين وآخر على مدار السنوات الماضية بقصف مطاري دمشق وحلب، وكثافة هجماتها ضد مواقع حزب الله في كل من لبنان وسوريا، إلى جانب استهداف قيادات وعناصر تابعين للحرس الثوري الإيراني في سوريا إلا أن هجمات 29 مارس 2024 تمثل تصعيداً غير مسبوق ربما يكون له دور في تحديد اتجاهات المواجهات الحالية بين الكيان الاسرائيلي والأطراف الاخرى خلال المرحلة القادمة. وقد استهدف الكيان الاسرائيلي من رفع مستوى التصعيد ضد خصومه الإقليميين تحقيق جملة من الأهداف الرئيسية، التي يتمثل أبرزها في:
1– تأكيد القدرة على توسيع نطاق الصراع: ترتبط قوة الغارات الإسرائيلية الأخيرة في حلب، في جانب منها، برغبة إسرائيل في تأكيد أنها تمتلك رصيداً وافراً من القوة تستطيع من خلاله التحرك من أجل تحييد خصومها. ولا ينفصل ذلك، من دون شك، عن محاولاتها بناء معادلة جديدة للردع بعد تآكل المعادلة السابقة بفعل المعطيات المختلفة التي فرضتها عملية “طوفان الأقصى”.
وهنا، فإنّ هذه الهجمات الإسرائيلية ربما لن تكون الأخيرة على هذا المستوى، بل إنها قد تكون بداية لمرحلة جديدة من التصعيد العسكري، خاصة في ظل سعي رئيس وزراء الكيان الاسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى شن مزيد من الضربات العسكرية ضد خصوم إسرائيل في المنطقة.
2- محاولة إنهاء فكرة “الملاذ الآمن” للخصوم: يبدو أن إسرائيل تسعى من خلال الهجمات الأخيرة إلى إنهاء فكرة الملاذ الآمن لخصومها، ولعل هذا ما اتضح من تعقيب وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على هجمات حلب بتاريخ 29 مارس 2024: “انتقلنا من ضرب حزب الله إلى ملاحقته، سنصل إلى كل مكان يوجد فيه في بيروت وبعلبك وصور وصيدا والنبطية وإلى كل امتداد الجبهة، وأيضاً لأماكن بعيدة أكثر مثل دمشق وغيرها. سنعمل في كل مكان يتطلب منا ذلك”.
ولم يكن هذا التصريح هو المؤشر الأول من نوعه على اتجاه الكيان الاسرائيلي نحو توسيع نطاق التصعيد مع خصومه. ففي مطلع يناير الماضي، صرح رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي بأن “الجيش الإسرائيلي يعمل في أنحاء المنطقة ويتخذ كل الإجراءات اللازمة لإظهار إصرار إسرائيل على الدفاع عن نفسها”.
3- استهداف الوكلاء الرئيسيين للخصوم: سعت إسرائيل عبر الغارات التي شنتها على حلب، إلى تقليص القدرات العسكرية للنقاط العسكرية التابعة لايران في الداخل السوري، والتي ترى تل أبيب أنها باتت تشكل خطراً لا يمكن تجاهله على أمنها، وربما تؤثر على عملياتها العسكرية في قطاع غزة، لا سيما وأنه منذ 7 أكتوبر الماضي، سارع محور المقاومة إلى دعم حركة حماس في مواجهتها ضد إسرائيل، وإن كان بشكل محدود، وذلك من خلال تنفيذ هجمات ضد إسرائيل والقواعد الأمريكية في سوريا والعراق.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الكيان الاسرائيلي ضاعف ضرباته العسكرية ضد مواقع تابعة لإيران وحزب الله داخل سوريا في الأشهر الستة الماضية، بهدف إضعافها وتحييد قدراتها العسكرية، وانعكس ذلك في ترويج وسائل الإعلام الإسرائيلية لرواية مفادها أن الهجمات الأخيرة في حلب استهدفت مستودعات صواريخ، فضلاً عن شحنة من الأسلحة الإيرانية في موقع داخل مطار حلب، تضم صواريخ موجهة وطائرات من دون طيار ومعدات لتحسين دقة الصواريخ، وكانت مرسلة إلى حزب الله في إطار استعدادات الأخير لحرب شاملة محتملة مع إسرائيل خلال المرحلة المقبلة.
4- تحسين صورة حكومة نتنياهو في الداخل الإسرائيلي: تحاول حكومة بنيامين نتنياهو من خلال رفع مستوى التصعيد العسكري مع الخصوم الإقليميين لإسرائيل، تحسين صورتها الذهنية في الداخل الإسرائيلي من جهة، وتقليص حدة الانتقادات التي تتعرض لها بسبب عملياتها العسكرية المستمرة في غزة والتي لم تحقق الأهداف الأوّلية بعد، وربما توجيه الانتباه بعيداً عن عملية اقتحام رفح التي يتم الإعداد لها، وذلك من خلال الترويج إلى أنها قادرة على كبح التنظيمات المسلحة التي تساهم -وفقاً لرؤيتها- في تأجيج الأزمات في الإقليم، ومن ثم محاولة استقطاب مزيد من الدعم الدولي لصالحها، ولا سيما في ظل الاهتمام العالمي الحالي بمواجهة التهديدات التي تفرضها العمليات العسكرية لبعض تلك المليشيات، على غرار المقاومون الحوثيون، التي تسببت في تهديد حركة التجارة العالمية منذ بداية تصعيدها العسكري في البحر الأحمر في نوفمبر الماضي.
5- التحسب لاحتمال إجراء انتخابات مبكرة في إسرائيل: مع تفاقم حدة الاستقطاب السياسي والمجتمعي داخل إسرائيل، واستمرار الدعوات لإجراء انتخابات مبكرة، بالإضافة إلى تصاعد التوتر بين الجيش الإسرائيلي وحكومة الحرب؛ لا يمكن فصل هجمات حلب الأخيرة عن محاولة نتنياهو تجنب احتمال الذهاب إلى انتخابات مبكرة، في ظل إدراكه أنه قد لا يستطيع الفوز فيها بأغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة الجديدة.
ومن هنا، فإنه يعمل على تصدير صورة مفادها أنه القادر على محاصرة خصوم إسرائيل واستقطاب الدعم الأمريكي، على المستويين العسكري والسياسي، وتحييد الضغوط التي تمارسها إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فيما يتعلق بعملية رفح وإدخال المساعدات إلى قطاع غزة، والترتيبات المستقبلية لإدارة القطاع بعد انتهاء الحرب.
وقد بدا في هذا السياق أن القرار الذي اتخذه نتنياهو بإلغاء زيارة وفد يضم مستشاره للأمن القومي تساحي هنغبي وعضو مجلس الحرب المستشار المقرب منه رون ديرمر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لا يهدف فقط إلى الرد على امتناع الأخيرة عن التصويت على القرار 2728 الذي أصدره مجلس الأمن في 25 مارس 2024 ويدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة، وإنما يهدف أيضاً إلى إثبات قدرته على تحدي إجراءات الإدارة الأمريكية.
ارتدادات محتملة
على الرغم من سعي إسرائيل لتوظيف الهجمات في حلب لتحقيق الأهداف السابقة، إلا أن هذا التوجه قد يفرض ارتدادات عكسية يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تعزيز الحضور العسكري الإيراني في سوريا: قد يدفع هذا التصعيد إيران إلى الإصرار على تعزيز وجودها العسكري داخل سوريا، وتقديم مزيد من الدعم النوعي لحلفائها ووكلائها القريبين من حدود إسرائيل، وهي سياسة تتبناها إيران باستمرار للتعامل مع الضغوط التي تتعرض لها، سواء كانت ذات طابع اقتصادي مثل العقوبات، أو ذات طابع عسكري على غرار الضربات التي تتعرض لها مواقعها وتسفر عن سقوط عدد من قادتها وكوادرها العسكريين.
2- ارتفاع مستوى هجمات الحوثيين: قد تدفع الهجمات الإسرائيلية الأخيرة الحوثيين إلى مواصلة عملياتها العسكرية التي تستهدف حركة التجارة في البحر الأحمر، وهو ما يعني تصاعد احتمال استمرار الارتدادات السلبية التي تعاني منها حركة التجارة العالمية خلال المرحلة المقبلة بسبب هذه العمليات.
3- استهداف القواعد والمصالح الأمريكية في الإقليم: ربما تتجه المقاومه الموالية في سوريا والعراق إلى توظيف هجمات حلب للعودة من جديد إلى استهداف مصالح الدول الغربية الداعمة لإسرائيل في المنطقة، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.
4- توسيع نطاق المواجهات الإسرائيلية مع حزب الله: يرجح أن تسفر الهجمات الإسرائيلية الأخيرة في حلب عن توسيع نطاق التصعيد بين إسرائيل وحزب الله في جنوب لبنان، حيث ربما يتراجع الحزب تدريجياً عن سياسته السابقة التي كانت تقضي بالانخراط في تصعيد محسوب مع إسرائيل لتجنب التعرض لخسائر كبيرة أو دفع إسرائيل إلى توجيه ضربات عسكرية قوية داخل لبنان.
5- تنشيط الخلايا الكامنة لـ “داعش”: لا يمكن استبعاد أن تؤدي حالة عدم الاستقرار التي طرأت على الساحة السورية نتيجة مواصلة الضربات العسكرية الإسرائيلية داخل سوريا وتوجيه ضربات مضادة من جانب الخصوم الإقليميين، إلى توفير بيئة مواتية لتنشيط الخلايا الكامنة لتنظيم “داعش” من خلال استغلال حالة الفوضى والهشاشة الأمنية، وبالتالي محاولة تكثيف النشاط في بعض دول الإقليم، انطلاقاً من سوريا، وهو احتمال لا يمكن تجاهله، خاصة بعد نجاح تنظيم “داعش خراسان” في تنفيذ عملية إرهابية نوعية في موسكو في 22 مارس 2024.
تصعيد متواصل
في الختام، يمكن القول إن هذا النمط الجديد من الهجمات الإسرائيلية ربما يكون مرشحاً للاستمرار في المرحلة المقبلة، خاصة في ظل استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، بالإضافة إلى رغبة تل أبيب في تقليص النفوذ الإيراني على المستوى الإقليمي، بعد أن استغلت إيران اندلاع الحرب في قطاع غزة لتعزيز حضورها الإقليمي ورفع مستوى أنشطتها النووية بشكل غير مسبوق، بالتوازي مع تحييد المقاومة في المنطقة ، والتي تشكل تهديداً إضافياً لإسرائيل حال فتح جبهة حرب جديدة في لبنان.
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا