تعرض مركز “كروكوس سيتي هول”، يوم 22 مارس 2024، في منتصف شهر رمضان المبارك، في موسكو لهجوم من قبل رجال يرتدون ملابس مموهة؛ حيث أطلقوا النار وألقوا عبوات ناسفة داخل مكان الحفل. وقد أعلن فرع تنظيم داعش الأفغاني (داعش خراسان) مسؤوليته عن الهجوم، الذي أسفر عن مقتل أكثر 140 شخصاً وإصابة أكثر من 100 آخرين. من ناحيتها، تماهت وسائل الإعلام الغربية إلى حد كبير مع هذه الرواية للأحداث، وأرجعت الحادث إلى “اضطهاد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمسلمين في السنوات الأخيرة”؛ فقد تداولت بعض المقالات تصريحات لمايكل كوجلمان مدير معهد جنوب آسيا في مركز ويلسون بواشنطن، الذي ذكر أن “السياسة الخارجية الروسية كانت بمنزلة راية حمراء كبيرة لتنظيم داعش، وخاصة الغزو السوفييتي لأفغانستان، والتصرفات الروسية في الشيشان، كما أن هناك علاقة وثيقة بين موسكو والحكومتين السورية والإيرانية، وخاصة الحملات العسكرية التي شنتها روسيا ضد مقاتلي داعش في سوريا وكذلك ضد عناصر التنظيم – من خلال مجموعة فاجنر – في أجزاء من أفريقيا”، بحسب كوجلمان.
ولكن إلى أي مدى ترتبط هذه الأعمال بتنظيم داعش؟ وهل تعكس هذه الحجة حقاً الحقائق الحالية؟ والأهم من ذلك، هل سيعرِّض هذا العمل الإرهابي الأخير الذي أعلن تنظيم داعش مسؤوليته عنه العلاقات الروسية مع العالم الإسلامي للخطر، التي نمت مؤخراً بطرق مختلفة؟
في دراستي القادمة “الإسلام في روسيا: تشكلات التسامح (سبتمبر 2024)”، أزعم أن التسامح يجب أن يُفهم على أنه تعايش في سياق الإسلام في روسيا. ويتناول الكتاب المعالم التاريخية الرئيسية للإسلام ومساره في روسيا. ويعتمد عملي على كتاب رافيل بوخاريف “الفصول الأربعة”، الذي اقترح تسلسلاً زمنياً من 922 إلى 1800 ميلادية للإسلام في روسيا. وينقسم كتاب “بوخاريف” من الناحية المفاهيمية إلى الربيع (685-1229)، والصيف (1229-1400)، والخريف (1400-1583)، والشتاء (1583-1917)، لإظهار كيف شكَّل الإسلام في مواجهة المسيحية الأرثوذكسية حضارة متطورة ومرنة للغاية خاصة به.
وعلى عكس تاريخ بوخاريف، الذي ينتهي في القرن التاسع عشر، فإنني أزعم أن “شتاء” الإسلام يمكن أن يمتد ليشمل الفترة من 1583 إلى 1917 ميلادياً، عندما تم إلغاء الإمبراطورية الروسية، ووصلت القيادة السوفييتية الجديدة إلى السلطة. وامتد الشتاء في “الفترة من 1583 إلى 1917″، حتى وصل إلى مرحلة “التجميد العميق” في ظل الحكم السوفييتي (1917-1990)، لكن “ربيع” الإسلام قد عاد مرة أخرى بعد عام 1990، وهي الفترة التي اتسمت بزيادة حرية الفكر والمعتقد والدين. وتشير الدراسة إلى روابط بين تجربة المراحل المختلفة للإسلام، والعلاقات بين الدولة والمجتمعات الإسلامية في هذه المراحل المختلفة. وتجادل بأن الشكل المتسامح من الإسلام الروسي ظهر على وجه التحديد لأنه مر بجميع الفصول: الربيع، والصيف، والخريف، والشتاء، و”الشتاء البارد”، ثم عاد مرة أخرى إلى الربيع. إن دراسة الهجوم الإرهابي المروع في موسكو في تاريخ الإسلام كله في روسيا يظهر أن سياسات حكومة بوتين تجاه الإسلام هي في مرحلة “الربيع”. هذا هو وقت ازدهار الإسلام الحديث المتسامح في روسيا مقارنة بالعصر السوفييتي.
لم يربط المجتمع الروسي وقادته الهجوم بوجود المسلمين في روسيا. كان المفتي الشيخ “رافيل جينوتين” رئيس الهيئة الدينية لمسلمي الاتحاد الروسي (DUMRF)، من أوائل زعماء الجالية الإسلامية الذين أعربوا عن تعازيهم في الضحايا الذين سقطوا في هجمات قاعة مدينة كروكوس، ودعا إلى الصلاة والدعاء لمن كانوا في المبنى. وسارع زعماء مسلمون آخرون في الدول ذات الأغلبية المسلمة في جميع أنحاء روسيا إلى ترديد كلماته ونشرها على نطاق واسع. ومن الواضح أنه كان هناك أشخاص من جنسيات وخلفيات مختلفة في القاعة، بما في ذلك المسلمون. وكان من بين الشخصيات البارزة في الحفل أيدار رايسوفيتش ميتشين نائب مجلس الدوما في الاتحاد الروسي، وهو عضو في مجتمع التتار المسلمين. ولحسن الحظ، لم يصب ميتشين بأذى. وفي مقابلة مع إزفستيا، قال: “في اللحظة التي بدأ فيها الهجوم الإرهابي، كنت في الصف الثاني، وتبين أن الهجوم كان حاسماً، لكن الهجوم كان بعيداً عنا؛ إذ كنت في أعلى الردهة”. وسرعان ما أدان المسلمون في روسيا الهجوم العشوائي. وكان لتنظيم داعش أسباب واضحة لمثل هذه الأعمال. ولم يكن الأشخاص الأحد عشر الذين اعتُقلوا حتى الآن، والمجرمون الأربعة المتورطون بشكل مباشر في الهجوم، من طائفة دينية مشتركة. ويبدو أن هؤلاء الأفراد أكدوا أن السبب الرئيسي وراء أفعالهم كان مالياً.
ومن الناحية الجيوسياسية، أعلنت روسيا حربها ضد داعش في سوريا في عام 2015؛ ما أدى إلى وجود عسكري روسي قوي في المنطقة. وبررت موسكو وجودها في سوريا بالقول إنها تقاتل تنظيم داعش وغيره من الجماعات المتطرفة. وتشكل سوريا أهمية بالغة لعودة روسيا كقوة عظمى، على الأقل فيما يتعلق بتوسيع نفوذها العسكري. ومنذ ذلك الحين، أثبتت روسيا أنها شريك موثوق لحكومة بشار الأسد في سوريا، بالإضافة إلى تطوير علاقات قوية مع إيران ومصر وتركيا وليبيا ودول الخليج. وقد عززت هذه العلاقات النفوذ الروسي في العالم الإسلامي.
وفي الآونة الأخيرة، أصبحت سياسة “النظر شرقاً” (Look East) التي تنتهجها روسيا تشمل على نحو متزايد دول الشرق الأوسط. على سبيل المثال، كانت دول مجلس التعاون الخليجي ذات أهمية كبيرة بالنسبة إلى روسيا؛ لأنها ساهمت في قدرة الأخيرة على التخفيف من آثار العقوبات الغربية. (كان من المتوقع أن تؤدي العقوبات إلى انكماش بنسبة 15% في الناتج المحلي الإجمالي لروسيا، ولكن يبدو أن هذا قد اقتصر على 7% فقط اعتباراً من عام 2022)، كما أن اتفاقات أوبك + بقيادة روسيا والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في أكتوبر 2022، وأبريل 2023، ويونيو 2023 ساعدت على تعزيز إيرادات الطاقة بنسبة 28%.
وتعد دول مجلس التعاون الخليجي أيضاً شركاء رئيسيين لتنويع التجارة الثنائية: فعلى سبيل المثال، في عام 2022، زادت التجارة الثنائية بين روسيا ودولة الإمارات بنسبة 68% لتصل إلى 8.5 مليار دولار. وتعد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وإيران ومصر والأرجنتين وإثيوبيا جزءاً من تجمع البريكس، الذي تلعب فيه روسيا دوراً متزايداً. وأدانت هذه الدول بشدة الهجوم الإرهابي الأخير على موسكو. وقدم العاهل السعودي الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان تعازيهما للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أعيد انتخابه قبل أسبوع رئيساً لروسيا بعدد قياسي من الأصوات، كما أكدت المملكة العربية السعودية أهمية مكافحة كافة أشكال التطرف والإرهاب. تشير هذه العوامل إلى أن حكومات الشرق الأوسط ستظل جهات فاعلة اقتصادية ودبلوماسية وسياسية وأمنية حاسمة.
خلاصة القول: بالرغم من أن تنظيم داعش أعلن مسؤوليته عن هجوم موسكو عبر قنواته على تيليجرام وقبل الجمهور الغربي هذه الرواية، إلا أن دوافع داعش تتعارض مع واقع المسلمين داخل روسيا والعلاقات الروسية مع الدول الإسلامية. لقد عملت السياسات الروسية الداخلية والخارجية تجاه المجتمعات والبلدان الإسلامية على تحقيق التعايش والتعاون. وينبغي أن يوفر التحقيق الداخلي الروسي في الهجوم، التقييم النهائي حول تورط داعش. وفي غضون ذلك، سوف يظل العالم الإسلامي محورياً في الأجندة الروسية. ومن غير المرجح أن يكون أي عداء أوسع هو سبب الهجوم الأخير، ومن غير المرجح أيضاً أن يكون ذلك نتيجة للإجراءات الأمنية الروسية. وعلى النقيض من الصورة التي غالباً ما ترسمها وسائل الإعلام الغربية، فإن سياسات روسيا المستمرة في مكافحة الإرهاب لن تؤدي إلا إلى تعزيز العلاقات المزدهرة مع العالم الإسلامي.