أجرى وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” زيارة رسمية خلال الفترة 24–26 أبريل 2024 إلى الصين؛ وذلك لمناقشة عدد من القضايا الخلافية بين بكين وواشنطن. وقد عبَّر “بلينكن” خلال زيارته عن تطلعه إلى إحراز تقدم مع نظيره الصيني حول عدد من القضايا السياسية والتجارية الخلافية بين الدولتين. وتُعَد هذه الزيارة هي الثانية التي يقوم بها “بلينكن” إلى الصين في غضون عشرة أشهر، كما أنها تأتي بعد أسبوعين فقط من عقد اتصال هاتفي بين الرئيس الأمريكي ونظيره الصيني، وهو أول اتصال يتم بين الطرفَين عقب اللقاء الذي استضافته مدينة سان فرانسيسكو بين الطرفين خلال نوفمبر 2023، كما أن هذه الزيارة تأتي بعد مضي نحو ثلاثة أسابيع من زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية “يلين” إلى بكين، خلال شهر أبريل الجاري، وإلقائها عدداً من التصريحات التي تُرجِّح وقوع بعض الشركات والمؤسسات الصينية تحت طائلة العقوبات الأمريكية، وهو الأمر الذي ترفضه الحكومة الصينية.
مخرجات رئيسية
قَدِم وزير الخارجية الأمريكي إلى بكين على رأس وفد دبلوماسي أمريكي رفيع المستوى، وقد التقى خلال زيارته التي استمرت ثلاثة أيام الرئيس الصيني وكذلك وزير الخارجية الصيني “وانج يي”، ووزير الأمن العام “وانج شياو هونج”. وجاءت زيارة “بلينكن” إلى بكين بالتزامن مع سعي كل من الولايات المتحدة والصين إلى إدارة الخلافات بينهما، وتجنُّب التصعيد غير المحكوم في العلاقات؛ هذا بالإضافة إلى عمل واشنطن على موازنة الزخم والتقارب الذي تشهده العلاقات الروسية الصينية، خاصةً قبيل زيارة “فلاديمير بوتين” إلى الصين في مايو 2024. وقد كانت جميع هذه القضايا على أجندة عمل “بلينكن” خلال زيارته، التي جاءت ملابساتها ومخرجاتها على النحو التالي:
1– استقطاب إعلامي أمريكي وصيني بشأن الزيارة: حظيت زيارة “بلينكن” إلى الصين بتغطية واهتمام إعلامي أمريكياً وصينياً؛ حيث بادرت العديد من الصحف والمواقع الإخبارية إلى تحليل الهدف من الزيارة، وأجندة العمل التي سيحملها “بلينكن” خلال زيارته إلى الصين قبيل وصوله إلى العاصمة بكين، خاصةً مع مناقشة الكونجرس الأمريكي والإعلام عدداً من التقارير التي تُرجِّح مساعدة بكين لموسكو في حربها ضد أوكرانيا.
في المقابل، أكدت الصحف الصينية – وذلك على غرار “Global Times” التي تصدر باللغة الإنجليزية – رفض التناول الغربي للزيارة، واعتبارها بمنزلة فرصة للولايات المتحدة لتهديد الصين، وحثها على التراجع عن مساندتها لروسيا في حربها بأوكرانيا، مؤكدةً أن واشنطن تحتاج بكين لحل عدد من القضايا الهامة، وعلى رأسها الحرب في غزة، ومعضلة انتشار مخدر الفينتانيل بالأراضي الأمريكية، ناهيك عن القضايا الخلافية الأخرى، كما وصفت العديد من الصحف الصينية الأخرى الزيارة بالفرصة المُهدَرة، التي تسعى من خلالها واشنطن إلى إلقاء الخطب على الصين بدلاً من العمل على التعاون معاً لمواجهة التحديات على المستويَين الإقليمي والعالمي.
2– حث الولايات المتحدة بكين على لعب دور الوسيط بين إيران وإسرائيل: دعا “بلينكن” بكين إلى عقد مداولات مع إيران، وحثها على عدم تصعيد الموقف مع إسرائيل. وحث وزير الخارجية الأمريكي بكين أيضاً على المساهمة في منع تصاعد حالة التوتر في الشرق الأوسط، وتحوُّل الحرب القائمة في غزة إلى حرب إقليمية شاملة، تهز استقرار المنطقة بالكامل، بجانب الأمن والاستقرار العالميين.
3– مناقشة التأثير السلبي للعلاقات الروسية–الصينية على الأمن الأوروبي: أما عن علاقة الصين بروسيا، فقد أكد “بلينكن” أن دعم الصين لروسيا في حربها بأوكرانيا، يهدد أمن كييف، بل يهدد حالة الأمن والاستقرار العامة في القارة الأوروبية ككل، وهو ما يمثل تحدياً كبيراً أمام الولايات المتحدة التي تحرص على حفظ الأمن عبر الأطلسي.
وقد رأى بعض المحللين أن تصريحات “بلينكن” السابقة خلال مشاركته في قمة مجموعة الدول السبع لوزراء الخارجية، التي استضافتها مدينة كابري بإيطاليا في أبريل 2024، والتي حذر فيها الدول الأوروبية من مخاطر الشراكة الصينية–الروسية، داعياً بكين إلى التفكير في التكلفة التي يمكن أن تتكبَّدها نتيجة الحرص على الاستمرار والمضي قدماً في هذه الشراكة، كشفت عن ضغوط أمريكية على بكين للتوقف عن دعم روسيا.
وقد علَّق وزير الخارجية الأمريكي خلال المؤتمر الصحفي الذي أقامه في بكين على هامش الزيارة، على الإجراءات المحتملة التي يمكن أن تتخذها واشنطن للتعاطي مع دعم الصين لروسيا، بالقول إن الولايات المتحدة تدرس الخيارات المتاحة أمامها حالياً لحل هذه القضية؛ وذلك مع تأكيده خضوع 100 كيان صيني لعقوبات أمريكية بفعل دخولها في شركات مختلفة مع الجانب الروسي، خاصةً الشركات الموفرة للمواد المستخدمة في الجوانب المدنية والعسكرية، إلا أنه لم يوضح على وجه التحديد الإجراءات الأخرى التي يمكن أن تتخذها واشنطن في هذا السياق، بما في ذلك إمكانية إخضاع بعض البنوك الصينية للعقوبات. وقد رفض المسؤولون الصينيون بدورهم هذه الاتهامات الأمريكية، مؤكدين أن العلاقات القائمة بين بكين وموسكو، هي شراكة اقتصادية خالصة، وتقوم بين أي شريكين تجاريين.
4– الاتفاق على حوار ثنائي لتناول المخاوف المرتبطة بالذكاء الاصطناعي: ناقش الطرفان أيضاً التطور الكبير الذي يشهده قطاع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وقد أثنى “بلينكن” على التقدم الإيجابي الأخير الذي تم إحرازه في التعاون الثنائي بين الطرفين حول عدد من الموضوعات، بما في ذلك الاتصالات العسكرية، ومكافحة المخدرات، والذكاء الاصطناعي؛ حيث اتفق الجانبان على بدء إجراء أول حوار ثنائي حول كيفية تقليل المخاطر من التكنولوجيا الناشئة.
5– حضور ملف مخدر الفينتانيل في أجندة الزيارة: أثنى “بلينكن” على التقدم المهم الذي أحرزته بكين في قضية مكافحة انتشار مخدر الفينتانيل؛ حيث أصدرت الصين قراراً يمنع شركات صناعة الأدوية والمنتجات العلاجية، من تصديرها إلى جهات مجهولة الهوية في أمريكا اللاتينية، وهي موطن تصنيع هذا المخدر، بالاعتماد على المنتجات الكيمائية والدوائية الصينية، إلا أنه مع ذلك قد شدد على ضرورة بذل الصين المزيد من الجهود في هذا الملف.
6– تأكيد بلينكن الحفاظ على خطوط اتصال دائمة مع الصين: مع مناقشة “بلينكن” الكثير من القضايا مع المسؤولين الصينيين، سعى إلى تأكيد حرص واشنطن على الحفاظ على علاقات متوازنة مع بكين، وإدارة الخلافات معها؛ حيث قال في مؤتمر صحفي عُقِد للتعليق على زيارته إلى بكين، إن واشنطن ملتزمة بالحفاظ على خطوط الاتصال وتعزيزها للتعامل بمسؤولية مع أي خلافات؛ لتجنُّب أي سوء فهم أو حسابات خاطئة مع الصين.
7– انتقاد بكين الضمني للسياسة الأمريكية: بالرغم من إشارة بكين إلى حرصها على علاقات إيجابية مع واشنطن، استبطنت تصريحات الرئيس الصيني خلال لقائه مع وزير الخارجية الأمريكي انتقاداً لسياسة واشنطن ووصماً لها بدرجة من الازدواجية؛ حيث دعا الرئيس الصيني “شي جين بينج” خلال محادثات جمعته مع “بلينكن” إلى أن يتعامل البلَدان كلاهما مع الآخَر على أساس الشراكة، لا على أساس التنافس، سعياً إلى تخفيف التوتر فيما بينهما، كما أكد “شي” استعداد الصين للتعاون مع الولايات المتحدة بشرط أن يكون لدى الولايات المتحدة النية ذاتها، كما أكد أنه ينبغي للصين والولايات المتحدة أن تكونا شريكتين وليستا متنافستين؛ وبذلك يجب عليهما البحث عن أرضية مشتركة لاحتواء الاختلاف بدلاً من الانخراط في المنافسة الشرسة مع الإبقاء على الاحترام المتبادل بالأقوال والأفعال.
دلالات جوهرية
يمكن استنتاج عدد من الدلالات المرتبطة بزيارة “بلينكن” الأخيرة إلى الصين، على النحو التالي:
1– التخوف من نمط العلاقات الصينية الروسية الحالي: تأتي زيارة “بلينكن” إلى بكين بالتزامن مع كشف عدد من المسؤولين الأمريكيين والتقارير الاستخباراتية النقاب عن حجم التعاون العسكري والصناعي القائم بين الصين وروسيا، وهو الأمر الذي انعكس بالإيجاب على قدرة موسكو على إعادة بناء قدراتها العسكرية، وتحقيق تفوق نوعي في حربها بأوكرانيا؛ فقد ذكرت المؤسسات الاستخباراتية الأمريكية في تقريرها الذي يقيم التهديدات السنوية التي تواجه الولايات المتحدة، أن الصين ضاعفت صادراتها من السلع ذات الاستخدام العسكري المحتمل إلى روسيا بأكثر من ثلاثة أضعاف منذ أن شنت موسكو حربها ضد أوكرانيا في فبراير 2022.
كما أشار التقرير إلى تزويد الصين روسيا بتكنولوجيا الطائرات بدون طيار والصواريخ وصور الأقمار الصناعية. وعلى الرغم من أن تبادل المعلومات والقدرات التكنولوجية على هذا النحو، لا يمكن أن تُصنَّف ضمن إطار المساعدات العسكرية المميتة المباشرة، فإنها تساعد روسيا على بناء جيشها للحفاظ على حربها المستمرة منذ عامين في أوكرانيا؛ فعلى سبيل المثال، حصلت روسيا في عام 2023، على قرابة 90% من وارداتها من الإلكترونيات الدقيقة من الصين، وهي الواردات التي استخدمتها موسكو لإنتاج الصواريخ والدبابات والطائرات العسكرية المختلفة. يضاف إلى ذلك مساهمة النيتروسليلوز المستورد من الصين، في زيادة وتسريع روسيا من إنتاجها للقذائف المدفعية.
وقد عبر العديد من المسؤولين الأمريكيين عن استيائهم من التقارير الواردة التي تشير إلى مساعدة الصين لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، كما دعوا بكين إلى التخلي عن مثل هذه السياسة التي من شأنها أن تضاعف من حالة عدم الاستقرار العالمية. يضاف إلى ذلك، تهديد البعض منهم بإمكانية فرض عقوبات اقتصادية على المؤسسات والكيانات والأفراد الصينيين المتورطين في مثل هذه المعاملات.
ومن المرجح أن تأتي زيارة “بلينكن” إلى الصين قبيل زيارة الرئيس الصيني “شي” إلى باريس في مايو المقبل، لتسليط الضوء على قضية التعاون الصيني الروسي، وإظهار تشدد بكين ورفضها التعاون مع واشنطن لحل الخلاف بصورة دبلوماسية. وسيساعد ذلك الولايات المتحدة في جهودها الرامية إلى إقناع الأوروبيين الذين يحتفظون بعلاقات رفيعة المستوى مع بكين لممارسة الضغوط عليها من أجل منعها عن مساعدة موسكو في حربها على أوكرانيا.
2– مواصلة الخلافات حول بحر الصين الجنوبي وتايوان: أثار تصميم الصين على تأكيد سيادتها المتنازع عليها على كامل بحر الصين الجنوبي العديد من الاشتباكات مع جيرانها، بما في ذلك الدول الحليفة للولايات المتحدة كالفلبين. وتحدث وزير الخارجية الصيني “وانج يي”، خلال زيارة بلينكن، عن الشكاوى الصينية بشأن السياسات الأمريكية في بحر الصين الجنوبي وتايوان، وصرَّح بأنه قد تم قمع حقوق التنمية المشروعة للصين بشكل غير معقول في هذه المنطقة. وأضاف “وانج” أن الولايات المتحدة لا ينبغي أن تتخطى الخطوط الحمراء التي تغطي مصالح السيادة والأمن؛ وذلك في إشارة واضحة إلى تايوان.
على الجانب الآخر، قال “بلينكن” إن تصرفات بكين الخطيرة في بحر الصين الجنوبي مثيرة للقلق، وإن الولايات المتحدة ستواصل التزاماتها الدفاعية الصارمة تجاه الفلبين. وأضاف “بلينكن” أن إدارة “بايدن” قد أعطت الأولوية للحوار الأمريكي الصيني حتى في القضايا محل النزاع، وأنه قد حدث بعض التقدم في العلاقات العام الماضي، لكن المحادثات ستظل صعبةً على حد وصفه.
ويصف “بايدن”، الذي التقى نظيره الصيني “شي” في نوفمبر الماضي في سان فرانسيسكو، بأن الولايات المتحدة مستعدة للدفاع عن جزيرة تايوان في حالة تعرُّضها لأي هجوم، كما تزداد فجوة الخلاف في هذه القضية بعد توقيع “بايدن” على مشروع قانون يتضمن مليارات الدولارات مساعداتٍ دفاعيةً لتايوان لمواجهة القوة العسكرية للصين.
3– رفض الطرفين المهادنة في التعاطي مع الخلافات الاقتصادية: قال “بلينكن” إنه من المهم ضمان منافسة صحية على الجبهتين الاقتصادية والتكنولوجية، وأضاف أن الصين مسؤولة عن ثلث الإنتاج العالمي وعُشر الطلب العالمي، وهو ما يستدعي التوافق بين واشنطن وبكين حول عدد من القضايا الخلافية المرتبطة بهذا الملف. وعلى الرغم من ارتباط الصين والولايات المتحدة بعلاقات اقتصادية وثيقة، فإن واشنطن قلقة من تعاظم العجز التجاري للولايات المتحدة في علاقتها مع الصين، الذي تعزوه إلى الممارسات التجارية الصينية غير العادلة، وهو الأمر الذي أشار إليه “بلينكن” خلال الزيارة؛ حيث أكد ضرورة احترام الممارسات التجارية العادلة في المعاملات التجارية بين البلدين.
وكانت واشنطن قد فرضت قيوداً على تجارة السلع التي من شأنها أن تعزز إمكانيات الجيش الصيني؛ حيث دعا “بايدن”، في وقت لاحق، الممثل التجاري الأمريكي إلى النظر في مضاعفة معدل التعريفة الجمركية الحالية على الصلب والألمنيوم الصيني ثلاث مرات، كما تحاول واشنطن تقييد واردات السيارات الكهربائية الصينية إلى الولايات المتحدة وربما تحاول حظرها، وهو الأمر الذي علق عليه “وانج” باعتبارها إجراءات لا نهاية لها لقمع الاقتصاد الصيني. وتؤكد جميع هذه التصريحات تمسك كل طرف بالسياسة التي يتبناها تجاه الطرف الآخر خلال المعاملات التجارية، مع رفض تقديم أي تنازلات.
4– استمرار حاجة الولايات المتحدة لبكين في عدد من القضايا الملحة: لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إلى بكين والتنسيق معها في التعامل مع عدد من القضايا الملحة، ولعل هذا ما يتضح من التعامل مع ملف مخدر الفينتانيل الذي لطالما روجت واشنطن لوصوله إلى أراضيها من خلال الصين عبر دول أخرى، لا سيما في أمريكا اللاتينية. ويُعَد الفينتانيل واحداً من ضمن العقاقير التي لها تأثير مدمر بين الشباب الأمريكي.
ويستدعي الذكاء الاصطناعي أيضاً مواصلة التنسيق بين بكين وواشنطن؛ حيث أعلن الجانبان، خلال زيارة بلينكن، عن إجراءات موسعة حكومية ستُتَّخذ حول الذكاء الاصطناعي، وأكد “بلينكن” أنه لا يزال بالإمكان بناء تعاون أكبر في المجالات التي فيها اهتمامات مشتركة، مثل الذكاء الاصطناعي والاتصالات العسكرية. وسيتبنَّى الجانبان إجراءات لتوسيع التبادلات الثقافية والشعبية بين البلدين والترحيب بالطلاب من البلدين من أجل نجاح قمة القيادة السياحية الصينية الأمريكية الرابعة عشرة التي ستُعقَد في مايو المقبل.
خلاصة القول: على الرغم من اعتبار العديد من الخبراء هذه الزيارة محاولة من الطرفين للمساهمة في استقرار العلاقات الثنائية – وهو ما سينعكس بالإيجاب على النظام العالمي – فإنهم في الوقت ذاته لا ينظرون إليها باعتبارها مؤشراً على حدوث تغيير جذري في الاتجاه الحالي للعلاقات الثنائية فيما بين الصين والولايات المتحدة؛ وذلك في ظل استمرار القضايا الخلافية بينهما، وحالة التنافس بينهما على النفوذ.