هي ثالث أهم موقع في سورية بعد ماري وإيبلا المؤرخة على عصر البرونز، وهي إحدى المواقع الأكثر أهمية في منطقة الفرات الأوسط لثلاث فترات تاريخية مهمة (البرونز، الكلاسيكي، الإسلامي) ، تتوضع في موقع استثنائي واستراتيجي هام فوق سهل كلسي على الجانب الغربي لنهر الفرات عند منعطفه الكبير نحو الشرق.
ذكرتها نصوص ماري وكسر فخارية تحمل نصوصا مسمارية تم تأريخها على عصر البرونز الحديث ، تشير إلى دورها الهام في العلاقات الاقتصادية بين سورية الشمالية وبلاد الرافدين، وقد ذكر أن عالم المسماريات جورج دوسان قد اقترح أن إيمار التي مر ذكرها في نصوص ماري يجب البحث عنها في موقع مسكنة.
الموقع
تقع مدينة إيمار شمال سورية على بعد 90 كم إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب بجوار بلدة مسكنة الحالية، وهي بلدة ومركز ناحية تابعة لمنطقة منبج، ويأخذ الموقع شكل مستطيل يحده في الشمال والشرق مجرى نهر الفرات وفي الجنوب وادٍ طبيعي يجري بمحاذاة الموقع لينتهي في الفرات. تتركز البقايا الأثرية لإيمار ضمن الجزء الغربي من الموقع الذي غمر بمياه الفرات.
قصة الاكتشاف
في مطلع العشرينات من القرن العشرين قام الباحثان أرنست هرتزفيلد وفريدريك بإجراء سبر في موقع مسكنة لمدة قصيرة وذلك للتعرف على طبيعة الموقع ومعرفة فتراته التاريخية. وفي عام 1929م نقبت بعثة أثرية برئاسة جورج سال وأوستاش دو لوري في المنطقة الإسلامية من الموقع وتم التعرف على المدينة الكلاسيكية والإسلامية.
كان أول من اقترح مطابقة إيمار القديمة بموقع مسكنة الحالي هو جورج دوسان
بعد أن تم العثور على نصوص من مدينة إبلا يرد ضمنها ذكر لمدينة إيمار، إلا أن المدينة لم يكن قد ثبت وجودها في موقع مسكنة، وبقيت مجهولة إلى حين البدء بحملة إنقاذ آثار الفرات، وتشكلت بعثة من المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق وذلك
عام 1971م واستمرت حتى عام 1976م برئاسة أندريه ريموند
ضمن موقع بالس التي تعود للعصور الإسلامية، وخلال موسم العمل قام فريق آخر بإجراء مسح أثري للمنطقة خارج أسوار المدينة البيزنطية الإسلامية، وقد تم العثور بين اللقى التي جمعت على كسر فخارية وأجزاء من ألواح طينية تحمل نصوصاً مسمارية تم تأريخها على عصر البرونز الحديث.
وقد ذكرت النصوص في مواقع أخرى وخصوصاً ماري وجود مدينة تعرف باسم إيمار تقع على الفرات وكان لها دور هام في العلاقات الاقتصادية بين سورية الشمالية وبلاد الرافدين، وقد ذكر سابقا أن عالم المسماريات جورج دوسان قد اقترح أن إيمار التي مر ذكرها في نصوص ماري يجب البحث عنها في موقع مسكنة.
وبناء على اكتشاف الرقيم المسماري تم تشكيل بعثة لإجراء أسبار برئاسة مارغرون وأربعة أعضاء آخرين، وقد حالفهم الحظ في هذه الأسبار، فبعد استمرار العمل لمدة أربعة أيام تم العثور على جرة فخارية احتوت في داخلها على 14 رقيماً مسمارياً كانت موضوعة ضمن أحد الجدران، وأكد هذا الاكتشاف وجود مدينة إيمار التي كانت قد ذكرت ضمن النصوص التي عثر عليها والتي تم تأريخها على المرحلة الأخيرة من عصر البرونز الحديث (1300 ق.م).
ثم تابعت المديرية العامة للآثار والمتاحف في سورية التنقيب في الموقع عام 1991م، ومع استمرار الأعمال لعدة مواسم تمكنت البعثة من الوصول إلى سوية عصر البرونز القديم، الدور الرابع، ومن ثم تم تشكيل بعثة مشتركة سورية-ألمانية لمتابعة الأعمال قامت بتوسيع التنقيب وتعميقه في منطقة كان الأثريون السوريون قد بدأوا العمل فيها، ليتم الكشف عن بقايا معمارية وأوانٍ فخارية كاملة وغيرها من اللقى المؤرخة على عصر البرونز القديم الدور الرابع.
ورد ذكرها
ورد ذكر إيمار بنفس الاسم في النصوص القديمة التي تعود للألفين الثالث والثاني قبل الميلاد، بينما كان قد أطلق عليها اسم بارباليسوس في العصر الروماني البيزنطي، واختصر في العصور الإسلامية إلى بالس، ورد اسم إيمار في العديد من النصوص والوثائق الكتابية المكتشفة في بلاد ما بين النهرين وشمال سورية، كما ورد اسمها في قائمة المدن التي نجدها مكتوبة على جدران معبد الكرنك من عهد تحوتمس الثالث. ويرد ذكر إيمار في نصوص ماري التي تعود إلى مطلع الألف الثاني قبل الميلاد.
لمحة تاريخية
كانت المدينة مملكة صغيرة تضم ميناءً تجارياً مهماً يعد عقدة مواصلات تربط بلاد الرافدين بالممالك التي تقع إلى الغرب منها على طريق الفرات (أو ما يعرف بالطريق البري)، وكانت السفن تفرغ حمولتها في هذا الميناء، ويتم نقل البضائع براً على ظهور الحيوانات إلى حلب عاصمة مملكة يمحاض، أو إلى قطنة على الطريق الصحراوي، وبالعكس كانت البضائع تنقل من حلب وقطنة إلى إيمار بالأسلوب نفسه. وتم الكشف كذلك عن رُقيميّن مسماريّين فيهما ذكر لثلاثة تدمريين يبدو أنّهم كانوا موجودين في إيمار وهم من التجار الذين كانوا يقومون بنقل البضائع والمواد التجارية.
تمتعت إيمار بعلاقات طيبة مع المدن المهمة في تلك الفترة وخصوصاً إيبلا في نهاية الألف الثالث قبل الميلاد، وماري التي كانت تنافس إيبلا على تمتين العلاقات الطيبة مع إيمار. تبعت إيمار مملكة يمحاض في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، وأصبحت الميناء الرئيسي لها على نهر الفرات، ثم استولى عليها الحثيون عندما احتلوا حلب وقضوا على مملكة يمحاض وذلك في مطلع النصف الثاني من الألف الثاني قبل الميلاد. وبقيت المدينة ذات موقع تجاري مهم على نهر الفرات حتى تم القضاء عليها عام 1187ق.م، وقد دمرت المدينة تدميراً شاملاً، ولم يعرف بعد بشكل دقيق من كان وراء هذا الخراب الذي لحق بالمدينة، ولم تقم لها قائمة بعد ذلك إلا في العصر الروماني-البيزنطي حيث تم بناء مدينة بارباليسوس فوق أنقاض المدينة القديمة.
وتتحدث بعض الرقم المكتشفة في إيبلا عن هدايا من الأثواب والمنسوجات قدمت لكبار رجال المدينة، أما في نصوص أوغاريت فنجد نصاً عن توسط ملك كركميش في نزاع بين رجل من إيمار وآخر من سيانو (الواقعة على الساحل السوري). إلا أن الوثائق الأكثر أهمية هي التي تم العثور عليها في إيمار نفسها، والتي قدمت صورة متنوعة عن النشاطات التي كانت تجري داخل المدينة وخارجها.
المكتشفات الأثرية
كشفت أعمال التنقيب التي جرت في الموقع عن كثير من المعالم المعمارية التي تعود إلى مساكن وقصور ومعابد ومدافن وغيرها من البقايا الأثرية الهامة للمدنية، لا سيما النصوص المسمارية التي ألقت الضوء على النواحي المختلفة من حياة المدينة. وهذه المكتشفات قدمت معلومات هامة عن تخطيط المدينة وتنظيمها منها:
المنازل
تم العثور على العديد من المنازل خلال مواسم التنقيب، إذ عثر على ما يزيد عن 30 منزلاً وهي مجتمعة ضمن أحياء، أما مخطط المنزل فيتألف من غرفة كبيرة مستطيلة الشكل تفتح مباشرة من خلال بوابة على الشارع، إلى جانب وجود حجرتين صغيرتين تنفتحان مباشرة على الحجرة الكبيرة وفي بعض الأحيان نجد غرفاً إضافية حسب الحاجة، والحجرة الكبيرة لم تكن مفتوحة السقف وهذه النماذج نجد مثيلاً لها في الأناضول وسورية الشمالية وفي فلسطين. أما النظام المتبع في إيمار غير معروف في مناطق كثيرة، ويوجد بشكل خاص في المناطق غير السهلية، حيث عمد الناس إلى تسوية الجروف الصخرية من خلال بنائها على شكل مصاطب ومدرجات على شكل مجموعات تعلوها المنازل بحيث تكون الأسطح متصلة مع بعضها أي يمكن التنقل بين منزل وآخر من على الأسطح، وقد تم الفصل بين كل مجموعة وأخرى من المنازل بواسطة شوارع منحدرة تقسم المدينة وتسهل الحركة ضمنها.
المعابد
تم العثور على بقايا عدة معابد ضمن المدينة وأهمها معبد بعل ومعبد عشتار اللذين توضعا في قلب المدينة، ويتألف مخطط المعبدين من قاعة كبيرة متطاولة الشكل تتقدمها بوابة مجهزة بأعمدة على الجوانب وضمن قدس الأقداس نجد المذبح المجهز بعدة درجات، فيما تتوضع ضمن الجدار الشرقي للمعبد ثلاث حجرات صغيرة متتالية، ومخطط المعابد هنا متوافق مع ما هو سائد في سورية منذ الربع الأول للألف الثالث قبل الميلاد.
النصوص المسمارية
تم الكشف عنها في قصر الحاكم المحلي وبعض المنازل الخاصة وفي المعابد، وبلغ عددها (الكاملة والأجزاء منها) حوالي الألف، ومحتواها يتعلق بكافة نواحي الحياة في إيمار وجميعها تعود لعصر البرونز الحديث وتم العثور بينها على نصوص حثية وحورية. وهذه النصوص تغطي ثلاثة أجيال بدءاً من إعادة تأسيس المدينة وحتى نهايتها عام 1187ق.م.
لقد كانت إيمار مملكة على الضفة اليمنى لنهر الفرات وامتدت سيطرتها حتى جبل بشري في الجنوب، أما السكان فكانوا نصف متحضرين واستقروا في منطقة منظمة، وكانت العائلة تحتل مكانة مهمة في المجتمع. اعتمدت المدينة في حياتها الاقتصادية على الزراعة والتجارة وتربية الماشية، ومن الآلهة المعروفة في المدينة بعل ودجن وعشتار، وقد أشارت النصوص إلى الآلهة وتقديم القرابين لها، كما ذكر الأشخاص الذين قدموا هذه القرابين، كذلك كانت هناك نصوص تتعلق بعمليات بيع وشراء لأراضٍ ومنازل.
إضافة إلى العديد من النصوص الأخرى التي تشير إلى نواحٍ جنائزية واجتماعية واقتصادية إلى جانب الكثير من المعلومات المتعلقة بالفنون والتأثيرات التي أظهرتها الطبعات فوق الرقم المسمارية. ونظراً لأهمية الموقع فقد تم افتتاح منزل واستراحة للزوار إلى جانب قاعة لعرض القطع الأثرية المكتشفة، وغرفاً مخصصة لسكن البعثة الأثرية السورية-الألمانية-الأمريكية المشتركة العاملة في الموقع إضافة لمخزن للأدوات واللقى الأثرية.
سنمار سورية الاخباري – رصد
Discussion about this post