د . مازن المغربي – سنمار سورية الاخباري
ثمة إجماع على أن النظام العالمي الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية لم يعد يتوافق مع سمات عصر الاقتصاد الشامل . اجتاحت الرأسمالية كل أرجاء الكوكب ، وتكمن المفارقة في أن أضخم تحول رأسمالي في التاريخ جرى تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني . تمكنت الصين من تحقيق قفزة اقتصادية هائلة جعلتها في موقع المنافس القوي على احتلال المركز الأول في قائمة أكبر الاقتصادات في العالم ، وهذا أمر تدركه واشنطن وتسعى لعرقلته بكل الوسائل. والسؤال الكبير الذي يفرض نفسه هو هل سيتم الانتقال إلى نظام عالمي جديد دون مجابهة عسكرية ؟ ففي ظل اشتداد المنافسة بين الدول الكبرى واندماج العالم في السوق الرأسمالية صار أي حدث يقع في أي مكان في العالم قادر على توليد تداعيات كبرى قد لا تكون واضحة لحظة وقوع الحدث . فعلى سبيل المثال كان لقرار جمهورية ألمانيا الاتحادية حظر بيع الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية تأثيراً سيئاً على العلاقات بين أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي وهما فرنسا وألمانيا . قررت برلين تعطيل أي صفقة بيع أسلحة فرنسية إلى المملكة الوهابية في حال تضمنت المعدات العسكرية مكونات من صناعة ألمانية الأمر الذي أثار ردة فعل في باريس التي اعترضت بأن ليس من حق برلين تحديد سياسة فرنسا في تصدير السلاح وجاء هذا بمثابة عامل توتر جديد في العلاقة بين الحليفين . كان لدى فرنسا طموح لتعديل آلية عمل الاتحاد الأوروبي بحيث يتحول إلى كيان سياسي له سياسة خارجية ودفاعية موحدة لكنها فوجئت بطلب برلين من فرنسا التخلي عن مقعدها الدائم في مجلس الأمن لصالح الاتحاد الأوروبي. وبالأصل كان حصول فرنسا على مقعد دائم في مجلس الأمن نتيجة صفقة حيث كان الاتفاق الذي قامت على أساسه منظمة الأمم المتحدة ينص على منح الدول المنتصرة في الحرب مقعداً دائماً في مجلس الأمن وفي واقع الأمر لم تكن فرنسا ضمن الدول حيث لم يشارك ممثل عن فرنسا في مؤتمر يالطا في شهر شباط من عام 1945 واقتصر الاجتماع على الثلاثة الكبار ، ستالين ، وروزفيلت وتشرشل . كما لم تشارك فرنسا في مؤتمر بوتسدام الذي عقد بين السابع عشر من تموز والثاني من آب عام 1945 ووضع تصور لإدارة شؤون العالم . ففي الواقع كانت فرنسا بلاد مهزومة مقسمة بين منطقة احتلال ألماني مباشر وبين منطقة تحت سيطرة حكومة فيشي الموالية للألمان وتم تحريرها إثر حملة النورماندي التي لعبت فيها قوات الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وقوات بولندا الدور الرئيسي في حين اقتصر الدور الفرنسي على المشاركة بقوات فرنسا الحرة بالإضافة إلى مشاركة سلاح الجو النيوزيلاندي والاسترالي و النرويجي في القصف الجوي . وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عام على نهاية الحرب العالمية الثانية لكن نتائج الحرب ما تزال تخيم على توازن القوى في أوروبا وهو أمر لا يحظى برضا برلين التي تريد تحويل قوتها الاقتصادية إلى سلاح يعزز مكانتها على المسرح العالمي. وجاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لمصلحة فرنسا التي صار لديها القدرة على امتلاك أغلبية في أي عملية تصويت داخل الاتحاد . وارتفعت في باريس العديد من أصوات الاحتجاج ضد تعنت ألمانيا ورفضها القاطع لكل ما ورد في مشروع إصلاح الاتحاد الأوروبي الذي طرحه الرئيس ماكرون في خطابه في جامعة السوربون في خريف 2017 ورأى مراسل صحيفة ليبراسيون جان كواترمر أن باريس تعاني من غطرسة ألمانيا التي دعت إلى إلغاء المقر الثاني للبرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ الفرنسية حيث المقر الرسمي للبرلمان ويستضيف اثني عشر دورة سنوياً ، في حين يستضيف المقر الثاني للبرلمان الأوروبي في مدينة بروكسل البلجيكية اجتماعات اللجان والجلسات العامة . وعبر الصحفي جان كواترمر متهكماً عن سعادته لأن برلين لم تطالب بنقل برج إيفل إلى ألمانيا . إذن جاء رفض برلين منح موافقتها لبيع أي عتاد عسكري يتضمن مكونات صنعت في ألمانيا لحكومة الرياض ليزيد من حالة التوتر بين العاصمتين الأوروبيين وكان ردة فعل مصانع الأسلحة الفرنسية المطالبة بإنتاج معدات لا تتضمن أي أجزاء من صنع الشركات الألمانية وبالتالي التحرر من الوصاية الألمانية على صادرات الأسلحة الفرنسية وهذا يعني تعطيل المشاريع المشتركة بين البلدين لإنتاج الأسلحة . ولم يقتصر الموقف الفرنسي على الاحتجاجات بل تحول إلى خطوات عملية حيث عارض الرئيس ماكرون مشروع السيل الشمالي 2 لنقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق . كان الاتحاد الأوروبي هو الأداة التي استخدمتها برلين لفرض إملاءاتها على اليونان خلال أزمتها الاقتصادية ، كما سعت ألمانيا إلى فرض سياسات تقشف على حلفائها بما في ذلك فرنسا وكانت ألمانيا تعتمد على تناغم سياساتها الاقتصادية مع التوجهات البريطانية لفرض وجهة نظرها لكن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي منح فرنسا أفضلية في أي عملية اقتراع نتيجة التقارب القائم فعلياُ بين فرنسا وباقي الدول الأوروبية المطلة على البحر الأبيض المتوسط وبالتالي صار من الصعب على حكومة برلين الانفراد بقرارات الاتحاد الأوروبي دون أن يعني ذلك التخلي عن طموحاتها بعد أن عبرت المستشارة اللألمانية عن تمسكها بمشروع نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا غير عابئة باعتراضات أوكرانيا أو واشنطن وهذا ينسجم مع السياق العام لتوجهات الدول الكبرى المتنافسة التي لم تعد تعتد بمبدأ احترام سيادة مختلف البدان ، بغض النظر عن حجمها، وصارت القاعدة هي ممارسة الضغوطات الاقتصادية والمالية دون أي رادع . يبدو أن الميل إلى الحلول التوافقية صار من الماضي وأن فرض إرادة القوى الكبرى على أي حركة اعتراض صار يمثل القاعدة كما نعيش الآن في بلادنا من حالة حصار شديد أثار على الحياة اليومية للمواطنين ، وهذا هو حال إيران وفينزويلا وكذلك الصين وروسيا مع وجود فارق أساسي يتمثل في امتلاك موسكو وبكين العديد من الخيارات دون أن يعني ذلك قدرتهما حالياً على المبادرة بالهجوم وتفادي التصعيد خشية من جر العالم إلى مواجهة ستكون مدمرة إلى حد بعيد. وقد لخص وزير الخارجية الروسية سرغي لافروف وضع السياسة الخارجية لواشنطن بأنه مقتصرة على التهديدات والعقوبات وجاء هذا رداً على تصريح مايك بومبيو أن مؤتمر وزراء حلف الناتو سيناقشون في اجتماعهم القادم في واشنطن في الأسبوع الأول من شهر نيسان فرض عقوبات إضافية على روسيا.