أن يخسر تحالف الشعب الذي يضم حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى جانب الحركة القومية بلديات أنقرة وأزمير وأضنة وأنطاليا واسطنبول، وهي متنازع عليها حتى كتابة هذه السطور وإن كان الفرز الجاري لن يغير كثيراً من النتيجة فهو إن فعل كان أثره أكبر من حالته الأولى، في حصيلة سجلت إلى جانب هذه الأخيرة خسارة خمس بلديات أخرى، فذاك حدث مهم يستحق التوقف عنده ملياً، ناهيك عن أن الانتخابات كانت على الدوام مرايا عاكسة لوعاء المجتمع وما يجول فيه من تحولات ثقافية وفكرية وسياسية، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أرادها مصيرية وتثبيتاً لخياره الذي مضى فيه نحو نظامه الرئاسي قبل عامين، وفي ذاك رأيناه يمضي نحو تجيير الكاريزما وإثارة النعرات بل المضي نحو تطرف أيديولوجي إسلامي اقتضته الضرورة على الرغم من محاذيره التي تهدد صورة الإسلام المعتدل التي حاول نشرها منذ وصوله إلى السلطة قبيل عقد ونصف من الزمن.
إن جردة حساب سريعة لما جرى تشي بأن الأسباب عديدة، لكن يقف في مقدمة المشهد تهتك النسيج الاقتصادي الشديد الالتصاق بسياسات الخارج، وإلى يمينه يقف فقدان الثقة الذي أصاب شرائح واسعة بدولة المؤسسات، على حين يُظهر يسار المشهد أثر ارتدادات الانهيار الحاصل في مشاريع التمدد الخارجية، مع تسجيل أفضلية كبيرة للمقدمة التي كانت تمثل «لاصقاً» أمكن له جمع ما لا يمكن جمعه، وكما غطى على العديد من زوايا الفشل ومعها الكثير من خطأ الحسابات.
بات من الثابت بعد 31 آذار من العام الحالي أن مشروع «أسلمة» تركيا وتصديره إلى الخارج هو أكبر مما تحتمله قدرات تركيا وأردوغان معاً في هذه المرحلة، والراجح أن هذا يعود بالدرجة الأولى إلى أن مفهوم النهوض في الذات الجماعية التركية كان قد ارتبط بالنزعة العلمانية التي برزت مع صعود مصطفى كمال أتاتورك كأول رئيس لتركيا بين 1923-1938، على حين أن مفهوم الضعف قد ارتبط بزمن الخلافة العثمانية التي اتخذت من الإسلام ستاراً لها، وهذي الظاهرة يمكن تلمسها في مسار التحولات التي عاشتها تركيا على امتداد قرن كامل، وفيها كان لتلك الذات خطان دفاعيان لحماية مفهوم النهوض السابق الذكر، الأول هو المؤسسة العسكرية، والثاني هو «الخلايا النائمة» بشتى صنوفها الفكرية والسياسية والاقتصادية.
كان أردوغان مدركا لذلك جيداً وقد استطاع تهشيم خط الدفاع الأول على مراحل، الأولى كانت في احتواء مذكرة رئاسة الأركان الالكترونية 27 نيسان 2007، والثانية في إفشال مذكرة الشرطة والقضاء 17 كانون الأول 2013، وكلا الحدثين اللذين تم تجاوزهما بتخطيط المنظّر أحمد داوود أوغلو، شكلا مدخلاً لاستثمار إخفاق انقلاب 15 تموز 2016 بشكل واسع، إلا أنه لم يستطع فعل الشيء عينه مع خط الدفاع الثاني كما تبدى في جولة الانتخابات البلدية الأخيرة.
في ظل هذا السياق يبرز تساؤلان مهمان يمكن دمجهما بواحد: تركيا وأردوغان إلى أين؟
كانت ردة فعل أردوغان الأولى عندما تكشفت الصورة بعد فرز 80 بالمئة من الأصوات هي نحو دواسة الاقتصاد فقال بوجوب إصلاحها، ومن المؤكد أن في التشيخيص الكثير من الموضوعية وإن كانت هذي الأخيرة جافة أو أنها تفتقد إلى الروحية الكاملة النشطة، فالترميم يبدو عملية شاقة دونها صعوبات كبرى، وهي تستدعي تدويراً لبعض الزوايا يصل إلى حدود الـ180 درجة، ثم إنها لا تستوي إلا برسم العلاقة مع الخارج، وهذي الأخيرة أهم ما فيها هو كيفية المزج بعلاقة متوازنة مع كل من واشنطن وموسكو في آن واحد، ومن بعدها تأتي استعادة القنوات، وكذلك الصورة، مع باقي الغرب الذي بدا في تراجع سياساته أنه ماض نحو خيار التخلي عن أردوغان أو التخلي عن دعمه على أقل تقدير، ومن المؤكد أنه يمكن اعتبار التقرير الذي نشره موقع جريدة «دير شبيغل أون لاين» في 4 نيسان الجاري مؤشراً كبيراً على هذا التوجه، فالجريدة صاحبة الثقل الأوزن على امتداد القارة الأوروبية، عندما تعمد إلى نشر ما قام به فريق عملها الذي وثق لصندوق احتوى على 100 جواز سفر كانت لمقاتلين دواعش ممهورة بأختام تركية وبعضها عليه ختمان أو ثلاثة مما يشير إلى حرية الحركة، فإن ذاك يتعدى الفعل الإعلامي إلى السياسي الفاعل، ولا حاجة هنا إلى التأكيد بأن ما توصل إليه ذلك الفريق كان معروفاً بأدق تفاصيله في دوائر المخابرات الألمانية والأوروبية عموماً منذ اللحظات الأولى، إلا أن العمل على خروجه موثقاً إلى العلن يعني إخراج ما في الجيب لشراء سلعة وهي مرحلة تتجاوز مرحلة التفكير بشرائها لتصبح في مرحلة اتخاذ القرار.
يبدو البقاء في المركب الأميركي كشرط أساس لترميم انهيارات الاقتصاد التركي أمراً صعباً هكذا «حاف» بعد الولوج مع لعبة خطرة مع الروس يبدو أن من الصعب التراجع فيها، صحيح أن العلاقة مع موسكو لا تأتي بالكثير في هذا المجال، أي في ترميم الاقتصاد، إلا أن للأمر حسابات «تماسية» وأخرى جيوسياسية ومن المؤكد أنه لا تغيب عن ذهنية أردوغان الآن أن النخر الأول الذي أصاب الإمبراطورية العثمانية كان روسيا عندما نجحت موسكو القيصرية في اختراق الخط الهيمانوني، الذي كان راسماً لحدود بناء وترميم الكنائس، بعد توقيع اتفاقية «كوجك قانيارجه» في العام 1774م، كانت تلك الاتفاقية على غموضها في التاريخ تمثل الإسفين الأول الذي دق في الجسد العثماني، سابقة بذلك النخر الأوروبي لهذا الأخير بمئة عام على الأقل.
تدخل الجيش التركي لحماية علمانية أتاتورك خمس مرات 1961، 1971، 1980، 1997 والخامسة كانت في عام 2016، وعبر إخفاق هذي الأخيرة عمد أردوغان إلى تكييف مؤسسات النظام بما يكفل إحكام قبضته على مفاصل أدق القرارات وصولاً إلى إجراء تعديلات كبرى وصلت إلى حدود «فرض» النظام الرئاسي في تكرار لتجربة مماثلة قام بها الرئيس التركي الأسبق عصمت إينونو الذي مضى بعيد انتخابه خلفاً لأتاتورك بعدة أشهر إلى إنتاج دستور عام 1938 الذي قال إن إينونو يمكن له أن يتنحى في أحد ثلاث حالات هي: الوفاة، المرض الشديد، الاستقالة، إلا أن ذلك لم يمنع من تنحيه في حالة رابعة بعد خسارته في انتخابات 1950 أمام جلال بايار، الرئيس التركي اللاحق، الذي لم يحصل سوى على صوت واحد، هو صوته، عندما ترشح أمام اينونو في عام 1938، وما نريد قوله هنا هو إن الدساتير لا تحمي أنظمة ولا حتى دول.
برز لدى تكتل المبعدين، ويضم الرئيس التركي الأسبق عبد اللـه غل، رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، ووزير الوزراء الاقتصاد السابق علي باباجان، قبيل الانتخابات توجه لتأسيس حزب جديد يلد من رحم حزب العدالة نفسه، بينما تقول التقارير إن التكتل تريث في إعلان تلك الولادة بانتظار الوقوف على نتائج انتخابات البلدية أواخر آذار الماضي، وفي ضوء هذي الأخيرة بات من المؤكد أن ذلك الحزب سوف يرى النور قريباً، فأهل اسطنبول أدرى بشعابها، وهزيمة رئيس البرلماني التركي بن علي يلدريم الذي لعب دور «حامل حقيبة» للزعيم فيها، أي في اسطنبول، هي بالتأكيد مقدمة لهزيمة صاحب الحقيبة نفسه.
قاد الرئيس التركي الأسبق عدنان مندريس مشروعاً انقلابياً على مرحلتي أتاتورك وإينونو، كان ذا تمددات خارجية هو الآخر، وسعى من خلال هذا المشروع إلى «أسلمة» تركيا في الوقت الذي أعتقد فيه أن بذور المرحلتين السابقتين الذكر قد ماتت، إلا أن ما جرى صيف عام 1961 أثبت أنها قد اختارت طور الشرنقة الحافظة للخصوبة بانتظار أن تلوح في الأفق ظروف أخرى مواتية، حتى إذا ما لاحت تلك الظروف في خريف هذا العام الأخير 1961، قادت الأقدار صاحب المشروع مندريس، نحو حبل المشنقة في جزيرة إيمرالي.
عبد المنعم علي عيسى – الوطن السورية