غسان الشامي
*كلمتي في افتتاح "جامعة أنطاكيا السورية" في معرّة صيدنايا ، بدعوة كريمة من قداسة البطريرك أفرام الثاني .
حين قرأت ترجمة صمويل كرامر لنص مسماري من الألف الثالث قبل الميلاد يصف فيه تلميذٌ يومه المدرسي وعلاقته بالمعلم والعلم قلت: لو إننا تابعنا احترام العلم والمعلم لكان المريخ واحداً من مستعمراتنا منذ قرون بعيدة، وعندما اطّلعت على قوانين مدرسة نصيبين، أقدم جامعة في العالم، وألق حروف وإدارة مار أفرام، أي قبل حوالي ألف وسبعمائة عام ، وكيف كانت لا تهاب تدريس الفلسفة إلى جانب الطب واللاهوت قلت: أي دمار معرفي احتّلنا وأناخ بسواده على بلادنا ، ووقتما عدت إلى "بيت الحكمة" الذي تأسس في عهد الرشيد وطوّر في عهد المأمون، وما أضافه وترجمه السريان من الكتب التي استجلبت من الأمصار ودور يوحنا بن ماسويه وابن البطريق وحنين ابن إسحق وقسطا بن لوقا وغيرهم فيه ، والمخاضات العلمية والفلسفية قلت: أي تتار وأوباش أقعدونا ألف عام ونيّف نعلك الهراء في الكتب الصفراء .
في زمان باسق مضى أطلقت أنطاكيا، عاصمة سوريا، نعم عاصمة سوريا العظمى وقتها ، وثالثة مدن العالم القديم الكبرى، المسيحية والفلسفة من المشرق إلى الكون عبر الذهبي الفم وبولس السميساطي ولوقيانوس المعلم وأوريجانس السكندري وساويروس والعشرات من الفلاسفة والقديسين والشهداء ورفعت شأن المدارس وأعلت أكثر من ثلاثين كنيسة، وتجلّت في العمارة الكبرى والمدنية، ثم طالها يباب التتار بأنواعهم الكريهة ومصائب الزمان، إلى أن غبّرها كتاب التاريخ المدرسي تاركاً إرثها نسياً منسيا، أو تحت عتمة سنابك الترك وملحهم الزنخ.
أيها السوريون العظماء.. يا من أهديتم العالم الحرف فخرج من أميّته… يا من أوقفتم فيما مضى زحف التصحر على أخضر العمران وكان السريان سيف الحضارة ودرعها وترسها في صدد والقريتين ومهين وحوارين، ها هي سوريتكم تنتصر اليوم على الجراد نفسه ،.. إنها فرصة الآن كي تمنعوا الرمل من اجتياح الفرات والخماسين من تشليع أغصان الفرّلق.
لا يمكن وقف الغبار الصحراوي الفكري إلاً بالعلم والمعرفة والأكاديميا.
لم يخرج القتلة وأصحاب الدشاديش القصيرة واللحى المقمّلة من الجامعات العلمية ، ولا الذباحون من معاهد الموسيقا، ولا أكلة الأكباد من المسرح الشكبيري، بل من مباءات الجهل ومدارس الورق الأصفر.
جامعة أنطاكية السورية ..سورية، هي مكان في الأمام ، والأمام لا يلتفت ،كما رأى النفّري الرائي.. إنها ردّ على من أراد لنا أن نكون قاعدين في الوراء، مستمرئين الجلوس فيه.. وكعادة السريان الذين أعطوا روحهم لهذه البلاد وما تزال أسماء قراها ومدنها تحكي حروفهم ، ما أقاموا ديراً إلاً وجاورته مدرسة أو جامعة ..لأن العلم هو الإيمان الحق ، وهو السراج الذي عاف المكيال منذ أول شهقة محبة في التاريخ.. لذلك هي جامعة أنطاكية سورية جامعة للسوريين ومن يلوذ بالمستقبل عندهم.. مباركة ووارفة بطالبي العلم وأهله .
شكراً قداسة البطريرك أفرام الثاني .
شكراً لأنكم تؤمنون بأن العلم والعقل هما الشرع الأبهى والأعلى.. أنتم ملح الأرض.
بارخمور ريش ريشوني…
Discussion about this post