”القوى الكبرى أو العظمى كما هو الحال مع روسيا واميركا في العادة لا تلتقي مع بعضها البعض وبشكل مباشر إلا في المراحل الاخيرة والحرجة من الصراع السياسي, وهي بالنسبة لي مستحيلة للغاية في الوقت الراهن, الا انه يمكن ان يتجه الوضع في اسوأ الأحوال وهو امر مستصعب كذلك نظرا لعدم جديته وجدواه إلى ارتفاع سقف التسلح بينهما بعد الانسحاب من هذا النوع من المعاهدات. ”
ــــــــــــــــــــــــ
ارتفع مقياس التوتر والاحتقان بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا في الآونة الأخيرة بشكل كبير, وذلك نتيجة العديد من الأسباب التي يمكن التأكيد على انها تدور في مجملها في دائرة الصراع المتبادل على مناطق النفوذ الجيوسياسي الدولي بوجه عام والشرق اوسطي على وجه الخصوص, ويمكن تفصيلها في تراجع قوة الجذب الاميركي المركزية مع بداية القرن الحادي والعشرين الامر الذي سهل على قوى دولية اخرى كروسيا وايران وتركيا من المشاركة في ملء ذلك الفراغ الجيوسياسي بطرق مختلفة ومتعددة.
يضاف إلى ذلك دخول الدولة الروسية بقوة في سوق السلاح العالمي نتيجة تصرفات الرئاسة الاميركية الراهنة, الأمر الذي دفع العديد من حلفاء الولايات المتحدة الاميركية إلى التفكير ببدائل جديدة تقلل من استمرار الابتزازات والتهديدات الاميركية لتلك الدول, كما ان ذلك يقلل من حالة الارتهان الى القوة الاميركية ويساهم في تنوع الحلفاء والشركاء الامنيين , كما هو الحال مع بعض دول مجلس التعاون وتركيا وايران والهند والصين وايطاليا على سبيل المثال لا الحصر.
الأمر الذي نتج عنه زيادة المخاوف الاميركية من تراجع نفوذها في اماكن كانت يوما ما تدور في الفلك الاميركي بشكل مطلق ولعقود كما هو حال الشرق الاوسط, ومن وجهة النظر الاميركية فإن روسيا تعد احد اهم الاسباب الرئيسية في ذلك التراجع, خصوصا بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر من العام 2001م .
ولا يخفى على احد حقيقة ان روسيا بالفعل تعمل على تفتيت ذلك النفوذ عبر وسائل وادوات مختلفة ومتعددة, منها على سبيل المثال لا الحصر الوقوف مع معظم الدول التي تقوم الولايات المتحدة الاميركية بابتزازها عبر بعض التهديدات السياسية والامنية, خصوصا ما يتعلق منها بتعليق صفقات السلاح, ودخول روسيا من خلال تلك المنافذ عبر صفقات بديلة.
كما ان الولايات المتحدة الاميركية خسرت مصداقيتها بشكل كبير وواضح في عهد الرئيس ترامب في كثير من القضايا الشرق اوسطية من جهة كما هو الحال تجاه القضية الفلسطينية والملف النووي الايراني, كما خسرت بعض اصدقائها وشركائها ولو بشكل مؤقت من جهة اخرى كما هو الحال مع بعض الدول الاوروبية نتيجة تضارب المصالح او بسبب التصرفات الاميركية التي يغلب عليها التهديد وانعدام الشرعية ومراعاة الاصدقاء والحلفاء.
الامر الذي اتصور انه وراء الدافع الحقيقي لقيام الولايات المتحدة الاميركية بتهديد روسيا عبره بالانسحاب من المعاهدة النووية بين البلدين والتي ابرمت ابان الحرب الباردة, والتي ادعت الولايات المتحدة ان روسيا قد انتهكتها , وفي رد رسمي قال المتحدث باسم الكرملين يوم الاثنين الموافق 22 اكتوبر (نحن لا نوافق بشكل قاطع على أن روسيا تنتهك معاهدة الأسلحة النووية, بل على العكس من ذلك، وعلى مستويات مختلفة وبمشاركة الخبراء، قدمنا أدلة على أنه في الواقع الولايات المتحدة الأميركية هي التي تضعف البنود والنقاط الأساسية للاتفاقية من خلال نشر القدرة المضادة للصواريخ ليس فقط اعتراض الصواريخ، ولكن يمكن أيضًا أن تستخدم صواريخ قصيرة أو متوسطة المدى، وأيضا باستخدام الطائرات المقاتلة بدون طيار وهلم جرا”. – وشدد بيسكوف على أن روسيا – ستضطر للرد واستعادة التوازن إذا طورت الولايات المتحدة أنظمة صواريخ جديدة).
والملاحظ فعلا ان العلاقة الاميركية الروسية الراهنة هي الأسوأ منذ العام 2001 , وهو ما اكده بالفعل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خلال مؤتمر صحفي في ختام أعمال الدورة الـ 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة بقوله (إن العلاقات سيئة ، وربما الأسوأ في كل أوقات العلاقات مع الولايات المتحدة، الجميع يدرك ذلك ).
الا انه وبالرغم من خطورة هذا المسار النظري الذي تتعاطى فيه هذه القوى الكبرى مع بعضها البعض بلغة التهديد والوعيد حيال هذا الملف وبقية الملفات ذات العلاقة والتداخل , الا انني اتصور وعلى الصعيد العملي ان هذا الاتجاه هو امر طبيعي بينهما بين الحين والاخر, وان الوقت كفيل بتهدئة الاوضاع والتخفيف من لغة التهديد خصوصا ان الرئيس بوتين والرئيس ترامب سيلتقيان خلال شهر نوفمبر القادم عندما يزوران باريس لحضور الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى.
يضاف الى ذلك ان القوى الكبرى او العظمى كما هو الحال مع روسيا واميركا في العادة لا تلتقي مع بعضها البعض وبشكل مباشر الا في المراحل الاخيرة والحرجة من الصراع السياسي , وهي بالنسبة لي مستحيلة للغاية في الوقت الراهن , الا انه يمكن ان يتجه الوضع في اسوأ الأحوال وهو امر مستصعب كذلك نظرا لعدم جديته وجدواه الى ارتفاع سقف التسلح بينهما بعد الانسحاب من هذا النوع من المعاهدات.
امر اخر يصب في اطار التهدئة المتوقعة وهو عقلانية الرئيس الروسي بوتين وبعض ممن يقف خلف الرئيس ترامب , ففي لقاء سابق بين الرئيس بوتين وجون بولتون مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترامب للأمن القومي قال هذا الاخير (إن الانسحاب المحتمل للولايات المتحدة الأميركية من معاهدة التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى يمكن أن يؤدي إلى سباق تسلح جديد أو جعل العالم أكثر خطورة هو مبالغة. متابعا: لقد كنت هنا في موسكو منذ 17 عاما أثناء خروج الولايات المتحدة من اتفاق الدرع الصاروخي، ولقد سمعنا الكثير من هذه التصريحات).
ختاما. ما يدور بين الولايات المتحدة الاميركية وروسيا لا يزيد عن كونه مبالغة في الخطاب الاعلامي لا اكثر ولو على المدى القصير على اقل تقدير, ولن يكون لذلك أي تأثير حقيقي على مستوى التهدئة السياسية, لذا نتوقع ان يكون لقاء بوتين ترامب القادم في شهر نوفمبر عندما يزوران باريس لحضور الذكرى المئوية لانتهاء الحرب العالمية الأولى لقاء سيفرز معه بعض التهدئة, وربما في احسن الظروف سيكون فرصة مناسبة لتجديد تلك الاتفاقيات والتخلص من بعض التوتر السائد بين القوتين, وان كان هذا صحيحا فإن افضل الاشارة على ذلك هو تراجع حدة تصريحات ترامب حتى حينه في هذا الخصوص, الامر الذي سيعني ربما ان هناك بعض التحضيرات بين الجانبين لكي تكون المناسبة ذات طابع اكثر فائدة للطرفين في ما يتعلق بالاتفاقية محل الخلاف والنزاع وغيرها من الملفات بينهما.
الوطن العمانية – محمد بن سعيد الفطيسي
Discussion about this post