في الوقت الذي تتهدم فيه أركان الديمقراطية الأميركية في العالم أمام مرأى ومسمع العالم بأسره، وتتقزم صورتها في أعين شعوب العالم، تواصل الولايات المتحدة تسويق ديمقراطيتها المفصلة على مقاس سياسات هيمنتها المطلقة على مقدرات العالم واستقلالية قراره، والمبنية على النظرة الضيقة بأحادية القطبية والحصرية لها.
المثير للسخرية هو التهديد الأميركي المتواصل ضد دول العالم باسم الديمقراطية الأميركية ومن ضمنها فنزويلا التي يسيل لعاب الولايات المتحدة على ثرواتها النفطية، والرغبة الأكيدة في إرجاع أميركا اللاتينية إلى عصر ما يعرف بجمهوريات الموز، فقد جاء هذا التهديد على لسان كل من جون بولتون مستشار الأمن القومي الأميركي ومايك بومبيو وزير الخارجية الأميركي اللذين هددا فنزويلا بفرض عقوبات جديدة وعزلة دولية، حيث قال الأول في تغريدة له على “تويتر”: “الجيش الفنزويلي لديه خيار: قبول الديمقراطية وحماية المواطنين والسماح بدخول المعونة الإنسانية أو مواجهة عقوبات جديدة وعزلة أكبر”. أما بومبيو فقد لفت إلى أن واشنطن ستتخذ إجراء ضد من يعارضون الديمقراطية في فنزويلا، وقال في تغريدة له على “تويتر”: “حان الوقت لدعم المحتاجين في فنزويلا، الذين يكافحون من أجل الحرية”.
كل التجارب الديمقراطية الأميركية السابقة والحالية والتي خيضت باسمها حروب تدمير دول ونهب ثرواتها تكشف البون الواسع بين الديمقراطية ومعانيها وأساليب تعاملها بين الشعب داخل الدولة الواحدة، وتنظيمها العلاقة بين الشعب والنظام، وبين الواقع الذي ترسيه التصرفات والمواقف الأميركية والتي بينها استخدام القوة الخشنة، وما يكشفه هذا الواقع من خبايا ونيات خبيثة مبيتة وأهداف استعمارية، لا علاقة لها بالكلية بمصالح شعب الدولة المستهدفة بالديمقراطية الأميركية، وإنما هي عبارة عن أسلوب أميركي خاص توظفه القوة العظمى من أجل سلب سيادة دول العالم وإرادتها ومقدراتها وثرواتها، بحيث تبقى هي القوة العظمى الأوحد المهيمنة والمسيطرة، وعلى جميع شعوب العالم أن تسبح بحمد الولايات المتحدة.
ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة، النماذج المشينة والمؤلمة في دول العالم عامة، ودول المنطقة خاصة، والتي لا تزال شعوبها تدفع ثمنًا باهظًا، ولا تزال دماؤها تنزف، وثرواتها تُستنزف وتُنهب، في حين بناها الأساسية سويت بالأرض، فغدت الدول المستهدفة بالديمقراطية الأميركية، أطلالًا، أو أعيدت إلى ما قبل العصور الوسطى.
ليس هناك أقسى وأصعب وآلم من تجارب المنطقة تحديدًا، وخصوصا العراق وليبيا واليوم سوريا والتي تعاني الأمرَّيْن جراء التدخلات الأميركية والغربية في شؤونها الداخلية باسم الديمقراطية، ونَكْب هذه الدول وشعوبها بالديمقراطية الأميركية، والمؤسف أن هذه الدول باتت تعاني نكبات مركبة، ليس نكبة التدمير في البنة الأساسية من طرق وجسور ومدارس وجامعات وكليات ووزارات ودوائر خدمية ومصادر طاقة، وكهرباء وماء وغيرها فحسب، وإنما نكبة التمزيق الممنهج والمدروس بعناية وهو النسيج الاجتماعي، وذلك بالعمل على تقسيم الدولة الواحدة المستهدفة إلى فساطيط وفق الأعراق والطوائف والمذاهب، ونثر بذور الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية تنفيذًا للقاعدة الاستعمارية البريطانية “فرِّقْ تَسُدْ”؛ أي تدمير الإنسان فكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا ودينيًّا، وهذا أقوى وأصعب مراحل التدمير. ومن يتابع اليوم الكيان الإنساني في كل من العراق وليبيا وسوريا واليمن وغيرها سيلمس مدى الشرخ العميق الذي أحدثته الديمقراطية الأميركية.
فنزويلا وما تتعرض له اليوم ليست استثناء، بل هي في صميم الاستهداف “الديمقراطي” الأميركي، فما أصابها و(سيصيبها ربما) هو ذاته ما أصاب العراق وليبيا وسوريا واليمن. ولكن هنا لا بد من الإشارة إلى أن “الديمقراطية الأميركية” لها كلمة سر وهي “فلسطين، ودعم الشعب الفلسطيني ومقاومته، وحقه في استعادة حقوقه، وإقامة دولته المستقلة على أرضه”، ولها حبل سري وهو “إسرائيل” و”مصادر الطاقة”، أو بمعنى أصح “الاحتلال الإسرائيلي” والعمل على تأمين بقائه وتمدد في عموم المنطقة، والسيطرة على مصادر النفط والغاز. فما أصاب تلك الدول من تدمير وتخريب وإسقاط لحكوماتها، وتشويه وتحريض وحصار وعقوبات، هو جراء دعمها الشعب الفلسطيني ومقاومته والاعتراف بحقوقه، ورفض كيان الاحتلال الإسرائيلي وجرائم الحرب التي يرتكبها صباح مساء بحق الشعب الفلسطيني، ورفضه الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وحقوق شعوب المنطقة في الاستقرار والسلام والاستقلال والسيادة والتنمية والتنعم بثرواتها. لذلك، لو أعلن الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو تخليه عن دعم فلسطين وشعبها، وإبعاد هذين الاسم عن لسانه، وأيد كيان الاحتلال الإسرائيلي وسياساته الإجرامية، وفتح قطاع النفط أمام الشركات الأميركية لأصبح صديقًا وحليفًا. وللأسباب ذاتها، تعمل الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية على صناعة الخونة والعملاء باسم “المعارضة” على غرار ما نشاهده في العراق وليبيا وسوريا وفنزويلا و…إلخ. حيث وظيفة هؤلاء الخونة والعملاء هو تنفيذ السياسات الاستعمارية ليس إلا. وللأسباب ذاتها أيضًا نؤكد أن الديمقراطية الأميركية قد انهدمت وفقدت بريقها في قلب وعقل كل عربي عاصر نكباتها وكوارثها. لذلك، سيستمر الصراخ الأميركي كلما ردد مادورو اسم فلسطين، ومنع الشركات الأميركية. وللأهمية، الديمقراطية تعني الحرية والاستقلال والسيادة والقوة والتمتع بالثروات والتحكم بها من قبل الشعب؛ وهذا لا يخدم سياسات المنادين بالديمقراطية، وهذا ما يعلمه يقينًا هؤلاء المنادون.
خميس بن حبيب التوبي – الوطن العمانية
Discussion about this post