يحكم التاريخ بعظمة الأمم ورقيها وتحضرها بما كفلته لرعاياها من حقوق، ومدى رعاية حكامها للمرضى والعجزة والمحتاجين.
ومما لا شك فيه أن الحضارة العربية الإسلامية فاقت فيما قدمته للإنسانية من حقوق ورعاية واهتمام كل تصور، حيث وفرت أسباب الصحة والراحة والطمأنينة لمن خانتهم الطبيعة، وتبارى الخلفاء والملوك والسلاطين ووزراؤهم وذوو الجاه والثراء والعلم على مرّ العصور بإقامتهم للبيمارستانات (المستشفيات) في كل عواصم الدولة الإسلامية باعتبارها صدقة جارية، وخدمة إنسانية ليخلّدوا فيها ذكراهم.
ولقد اشتهرت بيمارستانات متعددة، خاصة في الشام ومصر والعراق ونذكر منها البيمارستان الذي أنشأه نور الدين الزنكي في دمشق..
اختيار موقع البيمارستان:
كانت البيمارستانات تتمتع بمواقع تتوافر فيها شروط الصحة والجمال، ومصادر المياه.. حيث كان لاختيار موقع البيمارستان قواعد وأصول اتبعها العرب منذ أيام أبي بكر الرازي.
حيث يروى أنه عندما أراد السلطان عضد الدولة أن يبني بيمارستاناً جديداً وحديثاً بمدينة بغداد في أواسط القرن العاشر الميلادي، أوكل إلى الطبيب ذائع الصيت والشهرة «أبي بكر الرازي» بالبحث عن أفضل مكان له… وتفتق ذهنه عن طريقة مبتكرة، لا تزال موضع تقدير الأطباء واعجابهم حتى يومنا هذا.
فقد عمد أبو بكر الرازي الى وضع بعض قطع من اللحم من مختلف الأنواع في أنحاء مختلفة من بغداد، ثم انتظر أربعاً وعشرين ساعة، وبعد ذلك انتقى المكان الأنسب، من حيث نقاء الجو واعتداله، وهو الذي ظل فيه اللحم في أحسن حال، أو أقلها سوءاً وتعفناً..
أما السلطان صلاح الدين الأيوبي فلقد اختار أحد قصوره الفخمة في القاهرة، وحوّله إلى بيمارستان كبير.
معنى البيمارستان:
البيمارستان (بفتح الراء، وسكون السين)، كلمة فارسية مركبة من كلمتين، (بيمار) بمعنى مريض أو عليل أو مصاب، و(ستان) بمعنى مكان أو دار..
فهي إذاً دار المرضى، أو دار الشفاء، أو المستشفى.. ثم اختصرت في الاستعمال، فصارت «مارستان».
بيمارستان النوري:
بناه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، سنة 649هـ ـ 1154م، كما أنشأ غيره في البلاد، وكان بيمارستان دمشق أعظمها وأكثرها خرجاً ودخلاً، تولى بناءه كمال الدين الشهرزوري، فجاء أحسن ما بني البيمارستانات، ومن شرطه: «أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعزّ وجودها إلا فيه، فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه مستوصفاً فلا يمنع من شرابه».
ولهذا عندما أتى نور الدين الى البيمارستان لزيارته أحضر له قدح شراب، فشربه، قال: هذا حلال علي وعلى جميع المسلمين..
يعدّ البيمارستان النوري من أشهر الآثار العربية الإسلامية الباقية ليس فقط في مدينة دمشق، بل أيضاً في العالم الإسلامي، حيث مازال يحتفظ بالكثير من عناصره المعمارية والزخرفية والكتابية، ويعدّ مثلاً حياً معبراً عن التقدم العلمي والحضاري للعرب المسلمين.
ظل بيمارستان النوري عامراً إلى سنة 1317هـ .. وقيل إنه منذ أن عمّر لم تنطفئ فيه النار.
قصة بنائه:
لبناء بيماستان النوري قصة طريفة مفادها أن السلطان العادل نور الدين بن محمود زنكي خلال حروبه الطويلة مع الإفرنج، أسر أحد ملوكهم، وعند استشارة مجلس أعيانه بمصيره، أشاروا عليه أن يطلق سراحه مقابل فدية مالية قدرت بثلاثمئة ألف دينار، يصرف هذا المبلغ في بناء بيمارستان، ليكون مستشفى يقدم الدواء والعلاج لكل مصاب، وبالفعل فقد راقت له الفكرة، وأطلق سراح عدوه، وأخذه الفدية، واستقدم خيرة المهندسين والعمال لبناء هذا البيمارستان، الذي عرف باسمه.
موقع بيمارستان النوري:
يقع بيمارستان النوري وسط مدينة دمشق القديمة، في الشارع المسمى باسمه بمنطقة الحريقة (سيدي عمود سابقاً) إلى الجنوب الغربي من الجامع الأموي، وجنوب منتصف سوق الحميدية بحوالي مئة متر تقريباً.
ذاعت شهرته كأول جامعة طبية في الشرق كله.. واستمر بدوره حتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى أن أنجز بناء مستشفى الوطني (الغربا) سنة 1899م، في عهد الوالي حسين ناظم باشا، أيام السلطان عبد الحميد الثاني، فتحول الى مدرسة للإناث، ثم إلى ثانوية تجارية (مدرسة التجارة).. وفي عام 1978م أصبح متحفاً للطب والعلوم عند العرب، يضم في قاعاته مجموعة مهمة من الآثار الطبية والصيدلانية والعلمية، التي تبين أهمية العلوم ودور العرب في ابتكارها وتطويرها.
ويمثل مبنى بيمارستان النوري نموذجاً لفن العمارة السلجوقية من حيث مخططه وطرز عماره وعناصره المعمارية والزخرفية التي مازالت محافظة على وضعها الأصلي حتى يومنا هذا..
نظام العمل في البيمارستان:
تأتي أهمية هذا البيمارستان من إحكام التنظيم فيه، وأساليب المعالجة، وكثرة الأطباء.. وكانت أمور البيمارستان تدار على أحدث ماتدار به المؤسسات العلمية الطبية في أيامنا هذه..
وتشير المصادر التاريخية إلى أن البيمارستان كان يماثل القصور الملكية بترفه ووسائل الراحة المتوفرة فيه، وأنواع الطعام الفاخر، التي تقدم للمرضى والمصابين .. كما أن العلاج يتم دون تكلفة المرضى درهماً واحداً، وكانوا يمنحون المرضى عند خروجهم ثياباً ونقوداً تكفيهم للعيش دونما اضطرار للعمل مدة فترة النقاهة.
أقسام البيمارستان:
تذكر كتب التاريخ بأن بيمارستان النوري كان مشتملاً على أقسام مرتبة لكل منها أطباؤه المتخصصون المشرفون عليه ومن هذه الأقسام: قسم الأمراض الباطنية ـ قسم الجراحة ـ قسم الكحالة (أمراض العيون) ـ قسم التجبير ـ قسم الأمراض النفسية والعقلية..
وهناك أقسام أخرى متممة هي ما يعرف اليوم بـ (العيادات الخارجية)، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة عن الطبيب الرحبي (أنه كان يجلس على دكة، ويكتب لمن يأتي إلى البيمارستان، ويستوصف منه المرضى أوراقاً يعتمدون عليها، ويأخذون بها من البيمارستان الأشربة والأدوية التي يصفها)..
أيضاً هناك قسم للصيدلة يشتغل فيه الصيادلة بإعداد الأدوية من أشربة ومعاجين وأقراص..
تنوع أساليب العلاج
تفنن أطباء بيمارستان النوري في أساليب معالجة المرضى، حتى اهتدوا الى المعالجة بالموسيقا، حيث كانت الأجواق الموسيقية تروّح عن المرضى، وتسليهم عن آلامهم، كذلك كانوا يجلبون القصاصين والمنشدين إلى قاعات المرضى فيه، بل كان المؤذنون ينشدون على المآذن قبل الفجر بساعتين، بأنغام شجية، تخفيفاً لعناء السهر على المرضى المؤرقين.
ولا تزال هذه البدعة الحسنة جارية الى الآن في منتصف الليل دائماً، دون أن يعرف الناس لها أصلاً وسبباً.
الأطباء الذين عملوا في البيمارستان النوري:
ذكر ابن أبي أصيبعة في كتابه «عيون الأنباء في طبقات الأطباء، عدداً كبيراً من مشاهير الأطباء الذين مارسوا الطب وخدموا في البيمارستان النوري من بينهم: أبو المجد بن أبي الحكم ـ مهذب الدين النقاش ـ رضي الدين الرحبي ـ ابن المطران ـ ابن حمدان الجرائحي ـ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي ويعرف بالدخوار ـ عماد الدين الدنيسري ـ موفق الدين أبو العباس المعروف بابن أبي أصيبعة…
ومن الأطباء الذين نبغوا في دمشق، ودرسوا في البيمارستان النوري علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي الحزم القرشي الشهير بابن النفيس.. هذا العالم يعتبر صفحة مشرقة في تاريخ التراث العلمي العربي، حيث يحظى بشهرة كبيرة تجاوزت عصره وزمانه بفضل مؤلفاته الكثيرة وتصانيفه وتجاربه، واعتماده التشريح المقارن طريقة له في العمل والبحث.
ومن أهم أعماله اكتشاف الدورة الدموية الصغرى قبل سرفيتوس الأسباني بثلاثة قرون، وقبل نظيره الانكليزي وليم هارفي بأربعة قرون..
المتمارضون في البيمارستان:
كان بعض الناس يتمارضون رغبة منهم في الدخول الى البيمارستان، والتنعّم بما فيه.. وكان الأطباء يغضون الطرف أحياناً عن هذا التحايل.
قال خليل بن شاهين الظاهري في كتابه النجوم الزاهرة بعد أن زار دمشق: «وبها بيمارستان لم ير مثله في الدنيا قط.. وحدثت طرفة أحببت أن أذكرها، وهي أني دخلت دمشق 831هـ ـ 1447م، وكان بصحبتي رجل أعجمي من أهل الفضل والذوق واللطافة، وكان قصده الحج في تلك السنة، فلما دخل البيمارستان المذكور، ونظر ما فيه من التحف والمآكل واللطائف التي لاتحصى تمارض، وأقام به ثلاثة أيام، ورئيس الأطباء يتردد إليه، فلما فحصه وعلم حاله، وصف له ما يناسبه من الأطعمة الحسنة والدجاج والفواكه والحلوى والأشربة.. وبعد ثلاثة أيام كتب له الطبيب كلمة جاء فيها: «إن الضيف لا يقيم فوق ثلاثة أيام».. وهذا يوحي بأن الطبيب أدرك أنه متمارض، ومع ذلك فقد عامله كأحد الضيوف، وهذا غاية الحذاقة والظرافة واللطف.
أقوال في وصف البيمارستان النوري:
وصف كثير من المؤرخين والرحالة البيمارستان النوري كما شاهدوه عياناً.. نذكرمنهم:
ـ وصف ابن جبير:
وصف ابن جبير بيمارستان النوري عندما زار دمشق سنة 580 هـ بما يلي:
«وبها مارستانان قديم وحديث، والحديث أحفلهما وأكبرهما. وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر ديناراً، وله قومه بأيديهم الأزمّة المحتوية على أسماء المرضى وعلى النفقات التي يحتاجون إليها في الأدوية والأغذية وغير ذلك والأطباء يبكرون إليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويأمرون بإعداد ما يصلحهم من الأدوية والأغذية حسبما يليق بكل إنسان منهم، وللمجانين منهم أيضاً ضرب من العلاج».
ـ ولقد أوردت المستشرقة الشهيرة ـ زيغريد هونكه في محاضرة لها ألقتها في فناء البيمارستان مثالاً عن الروح الإنسانية للطب الذي كان يمارس في هذا المستشفى: «في القرون الوسطى وحتى ما قبل القرن الثامن عشر، كان المرضى المختلون عقلياً في الغرب هم الضحايا البائسة للدعوة القائلة بالعقاب الإلهي للخطيئة، وكان شفاء الاضطرابات النفسية والعقلية خاضعاً لمهمات الكاهن في استخراج العفريت الذي يسيطر على المريض وبالتالي فإن ذلك يعني أنهم في حال عجزهم عن استخراج هذا العفريت الذي ركب هذا المريض لجؤوا إلى تكبيله وسجنه وحجزه مدى الحياة، في ملاجئ للمعتوهين، تعمل في أجسادهم سياط الحراس الشداد الغلاظ.
بينما كان المعتوه في البيمارستان الدمشقي يحظى بعلاج خاص في عيادات متخصصة ومراقبة شديدة، أو في أقسام الأمراض العصبية التي كانت المعالجات فيها دقيقة وحكيمة تجرى من قبل اختصاصيين وبوسائل أقرب ما تكون الى وسائلنا العصرية»..
ختاماًَ
لقد كان بيمارستان النوري مؤسسة عمرانية، ومحطة رحمة للناس جميعاً، وكانت وسائل التشخيص والوقاية والعلاج فيه تتحدث ببلاغة عن عظمة حضارتنا.. لذلك كله كان نصباً تذكارياً للعبقرية العربية والاسلامية.
المراجع
ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء ابن أبي أصيبعة
ـ موجز تاريخ الطب الدكتور شوكت الشطي
ـ الطب عند العرب حنيفة الخطيب
ـ العلوم العملية في العصور الإسلامية عمر رضا كحالة
ـ شمس العرب تسطع على الغرب زيغريد هونكه
ـ تاريخ البيمارستانات في الإسلام الدكتور أحمد عيسى
ـ دمشق تاريخ وصور الدكتور قتيبة الشهابي
ـ سورية ملتقى الحضارات فوزي المعلوف.
ـ متحف الطب والعلوم عند العرب زهور سخنيني.
سنمار سورية الإخباري ـ رصد
Discussion about this post