إنّهُ الظلم ليس بمعناه الإجتماعي، إنّما الظلم الذي يلحق بالاقتصاد فينعكس سلباً على المجتمع. هو إعلاءٌ لمرتبة الأغنياء يترافقُ بتحطيم الطبقات الفقيرة إقتصادياً. هو إقتصاد السوق الحرّ عن طريق الصدمة، صدمة التعذيب الإقتصادي والجسدي… هو العنف.
“عقيدة الصدمة” كتابٌ صدر عام 2009، ولم يزل يُعمل به وبسياساته حتى اليوم. المؤلفة كندية المولد ابنة مونتريال تُدعى Naomi Klein، نشرتهُ وهي في التاسعة والثلاثين من عمرها. صحفية سياسية كاتبة وناشطة سلام، مناهضة للعولمة الإقتصادية وسياسات نيوليبرالية وللشركات العملاقة متعددة الجنسيات. وُلدت لأبوين يهوديين محافظين، تركا الولايات المتحدة إلى كندا عام 1967 بسبب معاداتهما لحرب فيتنام. والدتها مخرجة تدعى بوني شير كلاين، اشتهرت بفيلمها المعادي للإباحية “ليس قصة حبّ”. والدها الطبيب مايكل كلاين، عضو منتدى “أطباء من أجل المسؤولية الإجتماعية”. جدّها شيوعي سوفيتي قبل أن ينتقل إلى ديزني ويصبح رسّاماً.
كتاب موسوعي يقعُ في 657 صفحة، يعتبرُ أهم ما صدر عن السياسات الإقتصادية والإجتماعية منذ ثمانينات القرن الماضي. المهندسة لُجين سليمان لخّصت لمركز فيريل للدراسات أهم نقاط هذا الكتاب.
تُطلعنا الكاتبة نعومي كلاين على ما جرى خلال الأربعين عاماً الماضية من أزماتٍ وحروبٍ غيّرت وجهَ العالم، وتشرح عن أسطورة إنتصار اقتصاد السوق الحرة وبطريقة “ديمقراطية”، فتكشفُ الطرق والسياسات التي يسلكها رأس المال وهي عبارة عن الخيوط التي تُحرّك الدّمى في المسرح. أسمت هذه السياسات “المعالجة بالصدمة”. بلدان كثيرةٌ عُولجت بعقيدة الصدمة بتأثير سياسات تلاميذ مدرسة شيكاغو للإقتصاد Chicago school of economics؛ أندونيسيا. تشيلي. الأرجنتين. البرازيل. روسيا. دول شرقي آسيا لتنتهي بالعراق.
مذهب رأسمالية الكوارث
يستغلُّ مذهب رأسمالية الكوارث أية كارثة تُصيب منطقة أو دولةً، سواء كانت إنقلاباً أو هجوماً إرهابياً أو إنهياراً للإقتصاد والسوق أو حرباً أو كارثة طبيعية تنجم عن الأعاصير أو الزلازل… هنا يُمرّرُ هذا المذهب سياساته الإقتصادية والإجتماعية التي كان السكان يرفوضونها قبل الكارثة.
أشهر عرّابي هذه النظرية هو Milton Friedman، الإقتصادي الأميركي الشهير المتوفي عام 2006، حامل جائزة نوبل للاقتصاد عام 1976، وهو مستشار رونالد ريغن ومارغريت تاتشر وعشرات من السياسيين حول العالم تتلمذوا على يديه، بما في ذلك طغاة من دول العالم الثالث…
يذكر الكتاب كيف جعل فريدمان من تشيلي أولى حقول تجاربه، عندما كان مستشاراً للديكتاتور أوغستو بينوشي، حيث استغل صدمة الإنقلاب مشيراً عليه باستغلال صدمة الانقلاب أيلول 1973. وصلت أفكار فريدمان إلى سريلانكا وبريطانيا ويوغوسلافيا، ثم إلى الصين عقب الصدمة الناتجة عن مذبحة ساحة تيانانمن Tiananmen Square نيسان 1989.
كيف تُصبح الكارثة نعمة؟!
ينطبقُ هنا المَثل العربي “مصائبُ قوم عند قوم فوائدُ“. يتحدّث الكتاب عن السرعة التي تصرّفت بها واشنطن عندما أعلنتْ حربها على الإرهاب مستغلة “الهلع” الذي حدث بعد أحداث 11 أيلول، فسلّمتْ رأسمالية الكوارث بقيادة الرئيس الأميركي جورج بوش، شركتي Halliburton و Blackwater عملية الحرب على الإرهاب لتحصد الشركة الأولى عائدات عام 2006 تجاوزت 2 ترليون دولار.
في 26 أيلول 2004 ضرب تسونامي أندونيسيا مُخلفاً مئات الآلاف من الضحايا ودمار شامل، جاءت نظرية فريدمان الإقتصادية لاستغلال الكارثة بتحويل الشواطئ التي كان يقطنها الفقراء إلى منتجعاتٍ سياحية!
يروي الكتاب أنه كان على رأس من رأوا في فيضانات نيو أورلينز بعد إعصار كاترينا 2005، هو “ميلتون فريدمان” الذي قال بعد مرور أيام على الكارثة: (باتت معظم مدارس نيو أورلينز حطاماً، تماماً كما باتت منازل الأطفال الذين كانوا يقصدونها. إنّها مأساة لكنها أيضا فرصة تتيح لنا إجراء إصلاحات جذرية في نظام التعليم)…
الفرصة في عيون “فريدمان” كانت الاستعاضة عن الإنفاق لترميم لمدارس، بتقديم قسائم نقدية للمواطنين يقومون بإنفاقها في مدارس تمولها الدولة، وتتوخى من خلال إدارتها الربح.
دعمت إدارة جورج بوش أيضاً هذه الخطط وهو ما يعني الاستغناء عن ضمان التعليم الحر الموحد لأبناء المدينة كافة، فيبقى الفقيرُ أمّياً. هنا يشير الكتاب إلى وجود ما يسمّى “اغتصاب تربوي للأراضي” هكذا وصف كثيرون هذه الطريقة، لأنها مبنية على إزالة أركان التعليم الرسمي الأساسي المدعوم من الدولة والمراقب منها بنظام خاص.
عبارة جاءت على لسان الجمهوري Richard Baker عضو مجلس النواب عن ولاية لويزيانا بعد فيضانات نيوأورليانز: (هاقد حُلّتْ مشكلة الإسكان الشعبي في نيو أورلينز، لم نستطع أن نفعل ذلك نحن، لكن الله استطاع)… خلال الأسبوع الذي حدثت فيه الكارثة، غصّ مجلس المدينة التشريعي بأصحاب الشركات لا ليقدموا المساعدة بل ليغتنموا الفرصة، نعم إنها فرصة ثراء قائمة على مصائب الآخرين. في الوقت الذي كانت تنتشر فيه أشلاء الفقراء في آخر الشارع، كان الحديث يتمحورُ حول صفحة بيضاء جديدة.
العراق أوضح مثال، ماذا عن سوريا؟
هي مدرسة إقتصادية غزت العالم ومازالت، والكتاب لا يفسّر ما يحدث من كوارث طبيعية؛ لكنه بكل تأكيد يكشف بالوثائق والأدلة عن النيات المبيتة لما يجري في العالم من غزو وانقلابات ومجازر!
تعلّم فريدمان كيف يستغل أزمة أو كارثة عندما عمل مستشاراً لدى الديكتاتور التشيلي “أوغستو بينوشي”، كما ذكرنا، حيثُ اقترحَ “الخصخصة” في النظام الإقتصادي للقطاعات الخدمية وتخفيض الإنفاق الإجتماعي، وهو التحول الذي سمي بـ “ثورة مدرسة شيكاغو” لأن رجال الاقتصاد التابعين لـ “بينوتشي” تتملذوا على يد “فريدمان”.
بعد 30 عاماً بالضبط، برزت الصيغةُ ذاتها في العراق، ولكن بشكل أعنف من خلال الصدم والترهيب العسكريين، لتأتي بعدها الصدمة الإقتصادية، فبينما كان البلاد تعاني من صدمة عسكرية كبيرة وإرهابٍ وقتل ودمار، أعلن مبعوث الولايات المتحدة “بول برايمر” عن تقليص شامل لدور الحكومة… قاوم العراقيون هذا المشروع، فتمّ زجّهم في السجون وتعرضوا لمزيد من التعذيب الجسدي والصدمات النفسية. اتبعت واشنطن أسلوباً يُعرّف بحسب وكالة الاستخبارات المركزية بـ “الاستجواب القسري“، بإدخال السجناء في حالة من الضياع في حال عدم قبولهم النظام الإقتصادي الجديد، لإجبارهم على تقديم التنازلات، وقد أصدرت وكالة الاستخبارات المركزية دليلين حول هذا الأمر لشرح إمكانية توجيه ضربة أو هزيمة “للمصادر المقاومِة” من خلال سلخها عن العالم المحيط بها. حيث تُحرم في البدء الحواس من استقبال أية معلومات من خلال العزل التام بالأغطية وسدّادات الأذن، ثم بعصف بالجسد بمحفزات مفرطة في القوة مثل الصدمات الكهربائية والموسيقا الصاخبة، والهدف من هذه الأشياء هو التطويع كي يستسلم.
مذهب الصدمة الذي طُبّق إقتصادياً، يحاكي أسلوب التعذيب السابق بشكل بليغ، لأن اليوم عمل مذهب الصدمة هو وضع الناس والسكان أمام مسار جديد عند حدوث أي كارثة.
محو تاريخ سوريا والعراق
مازال كثيرون يعتقدون أنّ ما قام به الإرهابيون من تدمير ونهب وسرقة الآثار، عمل همجي غير منظم… طبعاً داعش والنصرة والجيش الحر وكافة الفصائل الأخرى، لن تفهمَ لماذا عليها أن تسرق أو تُدمّر الآثار سوى بأن يُنسبَ هذا العمل “القذر” لأسباب دينية أو للتجارة. الكاتبة الكندية تقول في كتابها: ليس الاقتصاد وحده هو شاغل صِبية مدرسة شيكاغو، تستخدم كلمة صبية بدل تلاميذ، إنما يستهدفون أيضاً الذاكرة الجمعية وما تختزنهُ من تاريخ مشترك… التاريخ عقبة كأداء أمام تطوير بنية وبيئة اقتصادية جديدة، لأنه يحملُ قيماً تتناقض مع قيم العولمة الإقتصادية وثقافة الاستهلاك… كيف سنمسح هذه الذاكرة؟ يجب مسح التاريخ. هذا يُفسّرُ سماح القوات الأمريكية لعصابات نهب الآثار بسرقة مقتنيات المتاحف العراقية. الدبابات الأمريكية بجنودها وأسلحتها تقف أمام المتحف الوطني العراقي، والعصابات تسرقُ الآثار أمام أعين الجنود الأمريكيّون… المطلوب هو بلد بلا ذاكرة يسهلُ فتحه أمام ثقافة جديدة تناسب نظرية “مدرسة شيكاغو” وتلامذتها في صندوق البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمؤسسات المالية العالمية المسؤولة عن كوارث عديدة في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
تُلاحظون أنّ الأمر نفسهُ جرى في سوريا. قاموا بسرقة الآثار إلى تركيا ولبنان وحتى إسرائيل، أو تدميرها كما جرى في تدمر، للوصول إلى بلد بدون ذاكرة وتمرير تاريخ جديد بدعم الإنفصاليين وتزوير تاريخ جديد لهم في سوريا والمنطقة، وخلق جيل لا يعرفُ عن تاريخهِ سوى “إنقطاع الكهرباء وإرتفاع سعر الدولار”…
الخاتمة
لم تصل الكاتبة الكندية إلى ما أطلق عليه مجازاً “الربيع العربي” كون كتابها صدر قبلهُ بسنتين. القارئ الكريم الواعي يمكنهُ إسقاطُ ما ورد على الوضع في دولته وسؤال نفسه: هل مرت دولتك بكارثة ما ثم بصدمة؟ ماذا يحدث الآن؟ هل قامت الحكومة بما يجب أن تقوم به تجاه شعبها الفقير أولاً؟ مَن استفاد واستغلَ الكارثة فازداد ثراؤهُ وازداد معه شقاء الشعب؟
ما يحدثُ تمّ ذكرهُ جهاراً قبل سنواتٍ طويلة، لكنّ القرّاء نادرون. هم يقولون صراحة؛ سنفعلُ هذا وهذا، بينما المفعول بهم وفيهم يُساقون دون رشاد أو وعي، محققين مع زعمائهم أهداف الغرب. اليوم وبعد حرب السنوات التسع، صدماتٌ كثيرة أصابت سوريا، فماذا تلاها؟
كلّ شيء يسير حسب مبدأ “عقيدة الصدمة” فالذي رفضهُ السوريّون عام 2010 قد يرضونه عام 2020. لا ندري مَن من المسؤولين والأثرياء قرأ هذا الكتاب أو غيرهُ، على فرض أنهم يقرأون… لكنّ تطبيقات مذهب (رأسمالية الكوارث) وتعاليم مدرسة شيكاغو يسير بحرفية… الخصخصة ابتدأت واستغلال الصدمة يجري بدقة. الإنفاق الاجتماعي قُلّص ومنازلُ الفقراء المُدمّرة ستصبحُ مدناً للأثرياء و”مضاجع” سياحية… وكلما صحى السوريّون “المشاغبون” من صدمة، تأتيهم صدمة جديدة كي تشغلهم عما يدور من استغلال كامل لفكرة الحرب والحصار والدمار و… إعادة الإعمار. لعلَ تعليقاتٍ لأحد متابعي مركز فيريل للدراسات تُلخّصُ حالةً يسعى إليها أصحاب إعادة الإعمار عندما قال هذا المتابع: “أي يقسموا سوريا ويخلصونا… بدنا نخلص بقى”… هذه هي الحالة التي يسعون إليها؛ يأس وتسليم السوريين بأيّ وضع جديد… المطلوب جيلٌ لا يعرف ماضيه ويقبل بحاضره مهما كان، جيلٌ مستهلكٌ ثقافته محصورة بتنبوءات نهاية العام وتطبيقات “آبس” والبنطال “الزاحل” أو مشغولٌ بطريقة دخول الحمّام بالقدم اليسرى أم اليمنى… فهل سينجحون؟
المهندسة لجين سليمان. إدارة التحرير في مركز فيريل للدراسات.