أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 18 نيسان الجاري، أي قبل أيام قليلة من نهاية ولايته الأولى مرسوماً يقضي بإلغاء السلك الدبلوماسي الفرنسي، ما يعني أنه سيضمّ كبار مسؤولي الشؤون الخارجية إلى مجموعة مشتركة من مسؤولي الدولة، وسيكون مصيرهم الانتقال من وزارة إلى أخرى طوال حياتهم المهنية. وبحسب المحللين الفرنسيين، فهو يرمي من هذا المرسوم إلى استبدال موظفي الدولة المحايدين بآخرين مقربين من ذوي المحسوبيات.
وسرعان ما تناولت المعارضة هذه القضية، حيث شجبت مارين لوبن هذا الأمر، في حين لفت جان لوك ميلينشون إلى أن فرنسا تشهد تدمير شبكتها الدبلوماسية بعد عدة قرون من ترسيخها. أما النائب إريك سيوتي، فقد أعرب عن أسفه قائلاً: “لقد أسقط ماكرون دعامة جديدة لدولتنا ذات السيادة، وباتت الدبلوماسية حكراً على الإليزيه”.
في عام 2010، أطلق رئيسا الدبلوماسية السابقان، آلان جوبيه، وهوبير فيدرين نداءً في صحيفة “لوموند” دعيا فيه إلى التوقف عن إضعاف وزارة الخارجية، مشيرين إلى أنه “في غضون خمسة وعشرين عاماً، تمّ بتر وزارة الخارجية بالفعل بأكثر من 20٪ من مواردها المالية وكذلك موظفيها”، ما جعل هذه المؤسّسة على وشك الانهيار. ولكن هذا الوضع كان أكثر خطورة مع ساركوزي الذي وضع وزارة الخارجية خلال فترة ولايته تحت قيادة برنارد كوشنير، فكانت النتيجة أن يقوم ساركوزي، “الأمريكي”، كما كان يطلق عليه، بطيّ صفحة فرنسا المؤيدة للعرب بشكل قاطع!.
يبدو أن تدمير القوة الفرنسية بدأ منذ الحرب العالمية الثانية، ففي حربها ضد أوروبا، كانت واشنطن تقصف المواقع الفرنسية، وبعد الانتكاسة الأولى لطموحات فرنسا العالمية في عام 1956 أثناء أزمة قناة السويس، استمرت قائمة الانتكاسات في الازدياد. في عام 1991، تسبّب الغزو الأمريكي للعراق بخسارتها منطقة رئيسية من النفوذ الاقتصادي والسياسي. وخلال الحرب ضد يوغوسلافيا، خانت باريس صربيا وانضمت إلى حلف شمال الأطلسي، ما كان مبشراً بالتخلي عن المحور السلافي للجغرافيا السياسية الفرنسية. ولكن منذ عام 2003، بعد أن أصيب شيراك بجلطة دماغية عام 2005، تحولت واشنطن إلى حالة تأهب قصوى. بعد سبع سنوات من خطاب وزير الخارجية الفرنسي في عهد شيراك، فيليب دو فيليبان، الشهير المعارض للحرب الثانية في العراق، امتنعت فرنسا عن التصويت في حزيران 2010 في الأمم المتحدة أثناء التصويت في مجلس حقوق الإنسان على الحاجة إلى إنشاء لجنة تحقيق دولية لتسليط الضوء على ظروف قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بشنّ غارة جوية على أسطول الحرية القادم إلى غزة. في غضون ذلك، أعاد ساركوزي قيادة فرنسا لحلف الناتو، وألغى نتيجة استفتاء فرنسا على الاتحاد الأوروبي عام 2005، وأعلن الحرب على ليبيا في عام 2011 نيابة عن الولايات المتحدة. في عام 2012، عمل ماكرون ووزير خارجيته فابيوس على إلقاء فرنسا لتكون رأس حربة الحرب الكونية الشرسة على سورية. في نهاية عام 2012، بدأت فرنسا بتزويد مجموعات ما يُسمّى “الجيش الحر” بالأسلحة والمعدات على الرغم من الحظر المفروض من قبل الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2014، انضمت باريس إلى التحالف الدولي بقيادة واشنطن ضد سورية.
وبعد أن فقدت نفوذها في آسيا، ثم في الشرق الأوسط، رأت فرنسا نفسها خلال فترة ولاية ماكرون مطرودة من اللعبة الكبرى في المحيط الهادئ، مع خرق عقد تسليم غواصات إلى أستراليا، والتشكيل المفاجئ لـ تحالف “أوكوس”. وفي أزمة كورونا، وخلال مواجهة حالات التمرد في أقاليم ما وراء البحار، لم تتردّد حكومة كاستكس في تقييم استقلال كاليدونيا الجديدة أو جزر الهند الغربية للتهرب من مواجهة المشكلة.
ليس هذا فحسب، حتى نفوذها في المغرب الكبير يتضاءل، حيث تتأرجح الجزائر بين واشنطن وموسكو. وهكذا تكون فرنسا تابعة للاتحاد الأوروبي، وبروكسل تابعة بدورها لواشنطن وحلف شمال الأطلسي. بالإضافة إلى ذلك، عملت أزمة كورونا ومن ثم الحرب في أوكرانيا على إماطة اللثام عن المشروع الأوروبي الحقيقي، حيث غدت أورسولا فون دير لاين، وجوزيب بوريل، وزير الخارجية الأوروبي، هما اللذان يحتلان مركز الصدارة ويقودان الكرة الدبلوماسية دون أي ذريعة.
وبحسب ما يرمي إليه ماكرون، فإنه اعتباراً من عام 2023 سينضمّ كبار موظفي الخدمة المدنية إلى “هيئة إداريي الدولة” الجديدة، والتي ستجمع المديرين التنفيذيين الذين تمّ تدريبهم حتى الآن من قبل المدرسة الوطنية للإدارة والتي تمّ استبدالها نفسها بالمعهد الوطني للخدمة المدنية منذ كانون الثاني 2022. ومن المحتمل أن يكون هناك تسلل متزايد إلى الدولة من قبل النخب الموالية لأمريكا، سواء تمّ تدريبهم في مسارهم الدراسي في الولايات المتحدة، أو تمّ استقطابهم من قبل مراكز الفكر والشبكات مثل القادة الشباب أو دافوس، بمعنى تصفية ما تبقى من نفوذ لأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، من أجل مصالح واشنطن.