قدم وفد «المجتمع المدني» في الجولة السابعة من اجتماعات «اللجنة الدستورية»، التي انعقدت في جنيف ما بين 21- 25 من شهر نيسان الماضي، ورقة كانت في غاية الأهمية، وفيها دعا للحفاظ على تسمية «الجمهورية العربية السورية»، وأصر على أن يحتوي الدستور المزمع التوصل إليه على مادة تنص على أن سورية «جزء من الوطن العربي، والشعب السوري جزء من الأمة العربية».
هذا الطرح مهم جداً لعدة أسباب، لعل في الذروة منها أنه يطول سؤال الهوية الثقافية والحضارية للبلاد الذي كما يبدو بات إشكالياً لدى البعض، أياً تكن أوزانهم والحجوم التي يقفون عندها، والطرح يزداد حدة بشكل خاص زمن الاختناقات، التي تكاثفت كثيراً في الآونة الأخيرة، ومن حيث النتيجة يبدو الرهان عليها اليوم كبيراً لإحداث انزياحات في المواقف من شأنها القبول بأجوبة أخرى على ذلك السؤال.
منذ أن قام الكيان السوري بالشكل الذي نعرفه اليوم العام 1920 كانت هناك العديد من التجارب التي خيضت من قبل الأحزاب التي نشأت على أرضه، وجميعها تهدف إلى خلق روابط قادرة على إنتاج نسيج متماسك قادر على النهوض ببلاد لعبت جغرافيتها الطبيعية، على امتداد سبعة آلاف عام، دوراً هو أشبه بـ«مفرخة للحضارات» التي تعاقبت على تلك الجغرافيا، واللافت في عملية التعاقب آنفة الذكر، أن زوال حضارة وحلول أخرى محلها لم يكن ذا طبيعة «اجتثاثية»، بمعنى أن كل الحضارات كانت تبقي، بعيد أفولها، على جزء من نسيجها الذي سرعان ما يجهد في صهر ثقافته، وحضارته، في السياقات التي تختطها الحضارة الصاعدة، لكن مع الاحتفاظ بخصوصيته التي لم يفقدها على الرغم من مرور آلاف السنين، وهذا هو ما يفسر وجود هذا التنوع الكبير في المذاهب والأديان والقوميات التي تفوق مثيلتها في أي بلد في العالم.
كانت تلك التجارب، التي تلت تأسيس الكيان الجريح، قد بدأت مع ظهور الإسلام السياسي الذي مثله تنظيم «الإخوان المسلمين» الذي وإن تأخر تأسيسه رسمياً في سورية إلى العام 1943، إلا أن خلاياه وأفكاره كانت قد بدأت بالظهور منذ أواخر العشرينيات من القرن الماضي، أي بعد إعلان تأسيس التنظيم في مصر عام 1927 على يد حسن البنا، لكن تجربة التنظيم كانت فاشلة في سورية، وفي المنطقة على وجه العموم، من حيث إن الإيديولوجيا لم تستطع أن تشكل عامل التحام داخلي، ولا مع المحيط أيضاً، وعليه لم يكن لها القدرة أيضاً في أن تؤسس لتجربة نهوض، والمؤكد أن حصيلة التجربة، عند هؤلاء، كانت تشير إلى دور تقسيمي للمجتمعات بل وللأفراد أيضاً، تلتها تجربة «القوميون السوريون» التي على الرغم من مشروعية الأفكار التي قامت عليها تلك التجربة إلا أن «الجيل الثاني» الذي جاء بعيد اغتيال المؤسس كان قد اجترح أفكاراً تقسيمية قادت نحو تشظيات في التجربة الأمر الذي أفقدها المشروعية في حمل الراية التي سعت لحملها.
على العكس من التجربتين السابقتين استطاع الفكر القومي العربي، على الرغم من انكساره في حزيران 1967، وعلى الرغم من تعثره في تجارب التنمية وتحديث مجتمعه، لكن الإيديولوجيا التي انتهجها ظلت تمثل رابطاً من النوع الحافظ لتشققات كبرى قد تطول تلك المجتمعات إذا ما ذهبت هذه الأخيرة نحو «الكفران» بها.
تقول التجربة التاريخية لسورية الطبيعية: إن العروبة، الراسخة فيها ما قبل الإسلام، شكلت الهوية الحضارية والثقافية الأقدر في تشكيل حالة جامعة لنسيج احتوى على مكونات عدة، والشاهد هو أن تلك الحالة استطاعت الثبات عبر امتلاكها للرابط الذي كان من النوع العابر للأديان والطوائف، ومعهما لمصطلحات كانت قد راجت مؤخراً من نوع «المناطقية» و«الجهوية»، فيما جاءت صيغة الدولة الوطنية التي عرفتها سورية بعد الاستقلال لتؤكد على رابط العروبة كنتاج طبيعي في مجتمع يحوي 90 بالمئة من سكانه من العرب (روزنامة العالم – طبعة نيويورك 2010)، ثم إن العروبة، كهوية، في سورية لم تكن نتاجاً لفكر «البعث»، ولا جاءت مع رياح «الناصرية» التي هبت منذ منتصف الخمسينيات، وطيفها يضم، إلى جانب هؤلاء، ماركسيون وإسلاميون وليبراليون أيضاً، وما نريد قوله هنا هو إن العروبة هي هوية حضارية، وأي بلد في العالم لا يمكن له أن يستمر استناداً لرابط وظيفي، وما يمكنه من الاستمرار فقط هو امتلاكه لتلك الهوية التي تعطي لدوره الوظيفي طعماً ولوناً خاصين يتميز بهما.
في الدستور المعدل للعام 2012 يرد الآتي: «تعتز الجمهورية العربية السورية بانتمائها العربي، وبكون شعبها جزءاً لا يتجزأ من الأمة العربية، مجسدة هذا الانتماء في مشروعها الوطني والقومي وفي العمل على دعم التعاون العربي»، والمؤكد هو أن أي تنازل تحت هذا السقف سيكون ضرباً للهوية وخلخلة للدور الوظيفي المعتد بها، والمعتدة به هي أيضاً، ولنا في التجربة العراقية التي مثلها دستور العام 2005 الذي كتب تحت حراب الاحتلال، خير مثال لما شهده، وسيشهده العراق لاحقاً، ففي المادة 3 من ذلك الدستور تم الشطب تماماً على انتماء العراق الحضاري والهوياتي، حيث اكتفت تلك المادة بالتأكيد على أن العراق «بلد إسلامي ومتعدد القوميات والأديان»، والمؤكد أن ورود تلك الصيغة كان هدفها تكريس التقسيم، ووضع الحكومة المركزية في حالة غير قادرة على حل مسائل مصيرية بعيداً عن التوافق مع الحالات التي جرى التأسيس لها نظرياً في الدستور، وربما كان هناك الكثير مما يمكن عرضه في هذا السياق، وآخره الطلب الذي تقدمت به حكومة إقليم كردستان في شمال العراق إلى مجلس الأمن الوطني في العراق، لإسقاط قرار المحكمة الاتحادية العراقية القاضي بمنع الإقليم من تصدير النفط إلى خارج العراق.
من المؤكد اليوم أن على السوريين، وعلى رأسهم «اللجنة الدستورية» المناط بها وضع دستور لهم، البحث عن «مكامن التفجير» المحتملة في الدستور السابق، وتلك التي يمكن للخارج زرع بذورها في الدستور اللاحق، لكن «التعددية» و«وجود أقليات» لا يعني أبداً إلغاء هوية أي بلد من البلدان، فالهوية هي نتاج لصيرورة حضارية استمرت لآلاف السنين، وليست نتاجاً لإحصائيات يمكن التلاعب بها تبعاً لاحتياجات «خارج» استطاع النفاذ إلى دواخلنا بعدما تلاقت مصالحه لدى نظيرة له عند شرائح داخلية تريد أن تعصف بكل شيء.