مثّل التواجد العسكري الروسي في سوريا منذ العام 2015 نقطة تحول محورية في استراتيجيات موسكو للتموضع كقوة كبرى مؤثرة في البحر الأبيض المتوسط. ولقد استطاعت روسيا من خلال تدخلها العسكري في سوريا سابقاً من إنقاذ نظام بشار الأسد من الانهيار مما أتاح لها إيجاد موطئ قدم استراتيجي في البحر المتوسط عبر قاعدتي طرطوس وحميميم. ولكن مع سقوط نظام الأسد، في 8 ديسمبر 2024، أصبح هذا التواجد العسكري الروسي يواجه تحديات غير مسبوقة قد تهدد استمرار نفوذه في المنطقة ككل. ويفرض هذا التحول على روسيا إعادة تقييم استراتيجياتها في البحر المتوسط في ظل التغيرات الأخيرة.
عوائق الاستمرار
يمثل سقوط النظام السوري تحدياً كبيراً لاستمرار التواجد العسكري الروسي في سوريا، وذلك للأسباب التالية:
1- سقوط الحليف المحلي لموسكو: كان نظام بشار الأسد يمثل العمود الفقري للتواجد الروسي في سوريا؛ حيث منح موسكو الشرعية لاستخدام قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم. مع انهيار النظام، فقدت روسيا هذا الدعم الأساسي، مما جعل استمرار وجودها العسكري مشكوكاً فيه. في ظل ذلك، ذكرت تقارير أن روسيا تسعى لإقامة اتصالات مع السلطات الجديدة لضمان استمرار قواعدها، إلا أن هذا الجهد يواجه تحديات كبيرة نظراً لتغير موازين القوى والمواقف السياسية، خصوصاً أن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف كان قد اعتبر في 7 ديسمبر 2024 أن مقاتلي هيئة تحرير الشام هم إرهابيون وأن روسيا لن تدعم إلا القوى السورية الشرعية.
2-ضغوط الحرب في أوكرانيا: تعاني روسيا من استنزاف كبير للموارد بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا، مما أثر بشكل مباشر على قدرتها على دعم وجودها العسكري في سوريا. وتشير التقارير إلى أن عدد الطائرات الروسية المقاتلة في قاعدة حميميم تقلص إلى 22 طائرة فقط بحلول منتصف عام 2024، مع انخفاض مماثل في عدد المروحيات إلى 15 مروحية. بالإضافة إلى ذلك، فإن العقوبات الغربية المفروضة على الاقتصاد الروسي زادت من صعوبة تغطية تكاليف التشغيل اللوجستي للنقل البحري والجوي إلى سوريا. هذه التحديات المالية والعسكرية تجعل من الصعب على موسكو الحفاظ على مستوى التواجد الذي كان قائماً في السنوات السابقة.
3- زيادة التهديدات الأمنية والتحديات الميدانية في سوريا: مع تصاعد نفوذ الجماعات المسلحة في سوريا، أصبحت القواعد الروسية عرضة لخطر متزايد. فعلى سبيل المثال، تقدمت قوات “هيئة تحرير الشام” نحو قواعد روسيا في طرطوس وحميميم، مما زاد من هشاشة الوضع الأمني بالنسبة للقوات الروسية. كما سجلت قاعدة حميميم عشرات الهجمات بطائرات مسيرة منذ العام 2018، وهو ما يشير إلى ضعف الإجراءات الأمنية في مواجهة التهديدات المستمرة. ولزيادة الأمور تعقيداً، أشارت تقارير إلى أن السفن الروسية المتمركزة في ميناء طرطوس غادرت قبل سقوط النظام خشية تعرضها لهجوم مباشر.
4- تأثير التغيرات السياسية في سوريا: مع ظهور سلطات جديدة في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، تواجه روسيا حالة من عدم اليقين بشأن مصير وجودها العسكري. فقد أشارت تصريحات دبلوماسية روسية إلى أن هذه السلطات قد لا تكون ملتزمة بالعقود الموقعة سابقاً وتحديداً في العام 2017 حول تحديد الوجود الروسي في طرطوس بـ49 عاماً، مما يعرض القواعد العسكرية الروسية لمخاطر الإغلاق أو إعادة التفاوض. ووفقاً لمصادر قريبة من الأحداث، حاولت موسكو تقديم مقترحات جديدة لضمان بقاء قواعدها، إلا أنها لم تَلْقَ استجابة واضحة من الجهات الحاكمة الجديدة، مما يزيد من تعقيد مستقبل هذا التواجد الذي يبدو أن تأمينه سيكون فقط لفترة قصيرة.
5- احتمالية تزايد الضغوط الخارجية لإنهاء الوجود الروسي في سوريا: يشكل الدعم التركي لقوى المعارضة السورية السابقة تحدياً كبيراً لروسيا، خاصة أن هذه القوى متجهة لأن تحكم سوريا الجديدة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الدول الغربية توجه انتقادات لموسكو تحت حجة ارتكابها انتهاكات إنسانية خلال قصفها مناطق المعارضة في سوريا، ولا يُستبعد أن تستغل بعض الدول الغربية فرصة إسقاط نظام الأسد من أجل الدعوة إلى إخراج روسيا من سوريا نهائياً، مما يزيد من صعوبة الحفاظ على وجود روسي طويل الأمد في سوريا.
خيارات موسكو
ستسعى روسيا لإعادة ترتيب نفوذها العسكري في سوريا والبحر المتوسط عبر خيارات متعددة، نشير إلى أهمها:
1- إعادة التفاوض لتأمين القواعد العسكرية: مع سقوط نظام الأسد، تسعى روسيا إلى التفاوض مع القوى المسيطرة الجديدة لضمان استمرار استخدام قواعدها العسكرية في سوريا، خاصة طرطوس وحميميم. وأظهرت تقارير أن بعض قادة المعارضة السورية أبدوا استعدادهم لتقديم ضمانات بعدم استهداف القواعد الروسية. ووفقاً لمصادر روسية، بدأ الكرملين في إنشاء قنوات تواصل مع الفاعلين المحليين بهدف إعادة ترتيب وجوده في المنطقة، حيث صرح ديمتري بيسكوف بأن موسكو تعمل على التفاوض مع الأطراف القادرة على حماية المصالح الروسية وضمان أمن القواعد العسكرية.
2- البحث عن بدائل إقليمية في البحر المتوسط: مع تزايد التحديات المرتبطة بالاحتفاظ بقواعدها العسكرية في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، تبحث روسيا عن مواقع بديلة يمكن أن تستوعب عملياتها البحرية والجوية في البحر المتوسط. وأحد الخيارات المطروحة هو ميناء بورتسودان في السودان، حيث توصلت موسكو في وقت سابق إلى اتفاق مع السلطات السودانية لإنشاء قاعدة بحرية هناك. وعلى الرغم من أن هذه القاعدة تقع في البحر الأحمر وليست جزءاً من البحر المتوسط، إلا أنها توفر منفذاً استراتيجياً يمكن استخدامه لدعم عمليات روسيا في المنطقة. ومع ذلك، فإن الوضع السياسي المتقلب في السودان والصراعات الداخلية هناك يشكلان عوائق كبيرة أمام تنفيذ هذا الخيار.
خيار آخر يمكن أن يكون بديلاً هو ميناء طبرق في ليبيا، حيث تتمتع روسيا بعلاقات قوية مع قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر. ويُعد ميناء طبرق خياراً منطقياً نظراً لموقعه الاستراتيجي في شرق البحر المتوسط، مما يتيح لروسيا إمكانية دعم عملياتها في المنطقة بسهولة نسبية. ومع ذلك، فإن البيئة السياسية الهشة في ليبيا، والمخاطر الأمنية المرتبطة بالصراع المستمر، تجعل هذا الخيار محفوفاً بالمخاطر.
وتبرز الجزائر كخيار محتمل، حيث سمحت الجزائر سابقاً للسفن الروسية بالتوقف في موانئها للتزود بالوقود والإمدادات. ورغم ذلك، فإن الجزائر تتبنى سياسة خارجية محايدة نسبياً، مما يجعل من الصعب عليها منح روسيا قاعدة عسكرية دائمة. علاوة على ذلك، فإن الموانئ الجزائرية تقع في غرب البحر المتوسط، مما يقلل من فاعليتها كبديل استراتيجي لطرطوس وحميميم.
3- تقليص التواجد العسكري وتبني استراتيجية الوجود المؤقت: تشير التطورات إلى أن روسيا قد تضطر إلى تقليص وجودها العسكري في سوريا، والاكتفاء بتواجد رمزي في القواعد المتبقية. يعتمد هذا التوجه على تحويل عملياتها إلى دوريات بحرية مؤقتة في المياه الدولية باستخدام سفن مزودة بصواريخ بعيدة المدى مثل كاليبر Kalibr وزركون Tsirkon، مما يضمن استمرار الردع دون الحاجة إلى وجود دائم مكلف. ويُظهر هذا الخيار قدرة روسيا على الاحتفاظ بنفوذها العسكري مع تقليل التكلفة الاقتصادية.
4- تعزيز التحالفات مع الحلفاء الإقليميين: يمكن لروسيا أن تُعيد ترتيب تحالفاتها الإقليمية لتعويض فقدان النفوذ في سوريا. وفي هذا السياق، أشار وزيرُ الخارجية الروسي سيرجي لافروف، في 7 ديسمبر 2024، إلى أهمية تعزيز التعاون مع إيران وتركيا لضمان الحوار البناء داخل سوريا. كما قد تلعب تركيا دوراً محورياً كوسيط بين موسكو والفصائل المعارضة، مما يعكس أهمية التنسيق الإقليمي لتحقيق الاستقرار وتأمين المصالح الروسية.
5- توسيع النفوذ عبر أدوات غير عسكرية: إلى جانب الخيارات العسكرية، يمكن لروسيا أن تلجأ إلى الاعتماد على الأدوات السياسية والاقتصادية لتعزيز نفوذها. فقد ذكرت تقارير أن موسكو تسعى لتأمين دور في إعادة إعمار سوريا كوسيلة لتعزيز نفوذها غير العسكري. كما يمكن أن تعمل روسيا على استخدام الدعم الاقتصادي والمساعدات الإنسانية كأداة للضغط السياسي وبناء علاقات جديدة مع القوى المسيطرة في سوريا والمنطقة من أجل مواجهة تمدد النفوذ الغربي في سوريا.
6- الانسحاب الكامل من سوريا: إذا أصبحت التكاليف المالية والسياسية للاستمرار في سوريا باهظة للغاية، فقد تُضطر روسيا إلى الانسحاب الكامل منها. وقد أشارت تقارير إلى أن بعض السفن الروسية غادرت طرطوس، وأن العمليات العسكرية الروسية في سوريا قد تقلصت بشكل كبير. كما ذكر بعض المحللين أن التركيز الروسي على أوكرانيا قد يدفعها إلى التخلي عن مواقعها في سوريا، والتركيز على مناطق أخرى أكثر أهمية استراتيجياً. ورغم أن الانسحاب الكامل يُمثل خسارة كبيرة للنفوذ الروسي، إلا أنه يبقى خياراً وارداً في ظل الظروف الحالية.
تداعيات محتملة
يُمكن الإشارة إلى التداعيات المحتملة للأحداث الأخيرة في سوريا على التواجد العسكري الروسي في البحر المتوسط، بما يلي:
1- فقدان نقطة ارتكاز استراتيجية: سيشكل سقوط نظام الأسد ضربة كبيرة للتواجد العسكري الروسي في البحر المتوسط، حيث كانت قواعد طرطوس وحميميم تمثل نقاط ارتكاز حيوية. فقاعدة طرطوس هي الوحيدة خارج روسيا، وهي تعد مركزاً لوجستياً مهماً لدعم العمليات البحرية الروسية في البحر المتوسط ومنطقة الساحل الأفريقي، بينما توفر قاعدة حميميم الدعم والغطاء الجوي. مع انهيار النظام، أصبحت هذه القواعد مهددة، ما يُضعف قدرة روسيا على تنفيذ عملياتها في المنطقة.
2- تراجع القدرة على الردع البحري: ساهمت القواعد الروسية في سوريا في تمكين موسكو من نشر سفن مزودة بصواريخ بعيدة المدى في البحر المتوسط، مما وفر قدرة ردع متقدمة ضد خصومها في المتوسط ولا سيما حلف الناتو. ومع سقوط الأسد، ستتقلص قدرة روسيا على تنفيذ هذه العمليات الاستراتيجية.
3- زيادة الاعتماد على الموانئ البعيدة: مع فقدان إمكانية الوصول إلى قاعدة طرطوس في سوريا، ستواجه روسيا تحدياً كبيراً يتمثل في ضرورة إعادة توجيه عملياتها البحرية إلى موانئ بعيدة مثل تلك الموجودة في بحر البلطيق أو موانئ الأسطول الشمالي. وتجدر الإشارة إلى أن الموانئ الروسية البعيدة، مثل سيفاستوبول في البحر الأسود أو ميناء كرونشتات في بحر البلطيق، ستحتاج إلى تحمل عبء صيانة السفن وإجراء العمليات اللوجستية، مما يزيد من بطء وكلفة العمليات البحرية الروسية في البحر المتوسط.
إن إغلاق المضائق التركية أمام السفن الحربية الروسية بموجب اتفاقية مونترو يشكل عقبة إضافية؛ حيث يتطلب عبور السفن من البحر الأسود إلى البحر المتوسط ترتيبات دبلوماسية معقدة مع تركيا. علاوة على ذلك، فإن هذه الموانئ ستكون بعيدة جغرافياً عن مناطق العمليات الأساسية في البحر المتوسط، مما يعني أن السفن ستحتاج إلى قضاء فترات أطول في الإبحار.
بالإضافة إلى ذلك، سيؤدي اعتماد البحرية الروسية بشكل كبير على سفن قديمة ترجع إلى الحقبة السوفيتية، إلى الحاجة إلى صيانة دورية مكثفة، وبالتالي فإن فقدان مرافق الصيانة في طرطوس يعني أن هذه السفن قد تُضطر إلى تقليص مدة انتشارها في البحر المتوسط، مما يضعف قدرة روسيا على الحفاظ على وجود بحري دائم وفعّال في المنطقة.
4- تعقيد عملية النقل اللوجستي: كانت القواعد السورية تشكل جزءاً من خط الإمداد العسكري الروسي المعروف بـالمركز السوري Syrian hub الذي يربط بين البحر الأسود والبحر المتوسط عبر طرطوس. مع خسارة الدعم المحلي السوري، تواجه روسيا تحديات لوجستية كبيرة في تأمين نقل المعدات والإمدادات إلى قواتها المنتشرة في البحر المتوسط، خاصةً مع إغلاق المضائق التركية أمام السفن الحربية الروسية منذ العام 2022 بموجب اتفاقية مونترو.
5- إضعاف النفوذ الإقليمي: سقوط الأسد سيُقلل من قدرة روسيا على استخدام سوريا كنقطة انطلاق لتوسيع نفوذها في شرق المتوسط وشمال أفريقيا. فعلى سبيل المثال، كان يتم استخدام طرطوس كقاعدة دعم للتواجد الروسي في ليبيا ومنطقة الساحل الأفريقي. وتشير تقارير إلى أن روسيا ستواجه من الآن صعوبة في تنفيذ عملياتها البحرية طويلة المدى في البحر المتوسط والشرق الأوسط، مما يضعف قدرتها على تحدي نفوذ الناتو في المنطقة.
6- تهديد فقدان المكاسب الجيوسياسية: مثلت القواعد الروسية في سوريا رمزاً لعودة موسكو إلى الساحة الدولية كلاعب رئيسي في الشرق الأوسط. ومع سقوط النظام، ستواجه روسيا خطر خسارة هذه المكاسب الجيوسياسية. وقد أشار مراقبون إلى أن غياب قاعدة بحرية دائمة في المتوسط سيؤدي إلى تقليص قدرة روسيا على الحفاظ على وجودها في المنطقة، مما يعزز نفوذ الناتو ودول أخرى مثل تركيا وإسرائيل.
ختاماً، سيؤدي سقوط نظام الأسد إلى إضعاف قدرة روسيا على استخدام قواعدها العسكرية في طرطوس وحميميم على المدى القصير، وربما فقدانها بالكامل على المديين المتوسط والطويل. كما أن محاولات موسكو للاعتماد على موانئ بعيدة من أجل إدارة وتنظيم تواجدها العسكري في المتوسط سيكون مكلفاً مالياً ومؤثراً على سرعة التحرك. بالإضافة إلى ذلك، يمكن القول أيضاً إن مساعي موسكو لإيجاد قواعد بديلة لها في البحر المتوسط لتعويض نقطة ارتكازها المفقودة في سوريا، لن يشكل حلاً مستداماً نظراً إلى أن البدائل المطروحة موجودة في دول تعاني من عدم استقرار أمني (على غرار ليبيا والسودان).ؤ
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا