اتخذت السياسة الأميركية منذ استلام ملف الشرق الأوسط في منتصف القرن العشرين استراتيجية واضحة ترتكز على مسارين ثابتين؛ الأول يتعلق بمصالحها القومية المباشرة، والثاني يتعلق بأمن الكيان الإسرائيلي، وظلت سياستها شبه ثابتة مع تغيير بعض عناصرها بتغير الأوضاع السياسية في المنطقة، فمنذ قرار تقسيم فلسطين عام 1947م، مرورا بحلف بغداد 1955م، ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبدالناصر عام 1958م، والتجاذبات الدولية التي حدثت فيي ستينيات القرن الماضي والحرب العربية ـ الإسرائيلية عام 1967م التي أحدثت تغيرات جديدة على الأرض لصالح كيان الاحتلال الإسرائيلي ثم انتصار العرب في أكتوبر 1973م، وما حدث بعدها من تحولات كبرى تمثلت في اتفاقية كامب ديفيد التي تزامنت مع قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، والحرب العراقية ـ الإيرانية ثم احتلال الكويت التي تعتبر من أهم المحطات التي تمكنت بعدها الولايات المتحدة من الهيمنة على المنطقة، وتزامن ذلك مع تغير تاريخي دولي بسقوط الاتحاد السوفييتي وتربع الولايات المتحدة على العالم فيما سمي بالقطبية الأحادية، كما حدث بعض التراجعات فيما يتعلق بالقضية المركزية الفلسطينية من خلال اتفاقات أوسلو ووادي عربة. واللافت هنا أمام تلك التراجعات برزت حركات المقاومة العربية في المنطقة وحدث الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وقطاع غزة، وظلت الولايات المتحدة هي الراعية الأولى لعملية السلام في الشرق الأوسط دون جديد يذكر، وأخيرا حدث ما يسمى بـ”الربيع العربي”، هذه كلها أحداث مفصلية ومحطات رئيسية ارتبطت بالسياسات الأميركية في المنطقة. وسنسلط الضوء على الأحداث الأخيرة في المنطقة بشيء من التفصيل وموقف الإدارات الأميركية المتعاقبة منها، ففي العراق شنت الولايات المتحدة حربها على العراق على ضوء أكاذيب وادعاءات ثبت بطلانها لاحقا، ما أدى إلى نتائج كارثية، فسقط نظام الدولة العراقي بقيادة الرئيس صدام حسين وجميع منظومة الدولة، وأصبح العراق من الدول الفاشلة في ظل احتلال أميركي فتم إحلال الجيش العراقي وإقرار قانون اجتثاث البعث، واستهداف العلماء، وحدثت مجازر بشعة قتل فيها الآلاف من أبناء الشعب العراقي، وتم تشريد أعداد أخرى وعاش العراق في مستنقع خطير، فظهرت أنظمة جديدة تقوم على المحاصصة الطائفية، وحدثت أسوأ مواجهة مذهبية، وأصبح العراق محطة انطلاق للقاعدة وتنظيم “داعش” ومشتقاته الإرهابية وغيرها، كل ذلك من أجل تدمير العراق كدولة قوية في المنطقة، لذا أصبح البديل الطبيعي الحاكم في العراق أولئك الأشخاص الذين جاءوا مع الدبابات الأميركية، وتم تعيين الحاكم الأميركي على العراق بريمر لتكريس النظام الطائفي، وخلف من بعده حكومات تقوم على هذا الأساس. وفي فلسطين استمرت المماطلة في حل الدولتين واستمرت المفاوضات في لعبة سياسية لا أخلاقية، فلم تقم الإدارات الأميركية المتعاقبة بما يلزم للضغط على إسرائيل من أجل الاستجابة لمساعي السلام، ولم يتحقق أي من الوعود الأميركية، وللأسف الشديد استمرت السلطة على نفس الخط المهادن والمستسلم كمن يستجدي السلام مع المحتل الأجنبي، ولم تتبنَّ السلطة ورقة القوة والكفاح للمساومة من خلالها، بل إن الكيان الإسرائيلي ومع تلك التنازلات شن أكثر من حرب على الفلسطينيين لأسباب واهية، واستمر في الاجتياحات والاعتقالات وبناء المستوطنات، وتجاوز كل الحقوق الفلسطينية، ذلك ما أدى إلى ظهور حركات المقاومة الفلسطينية فاندلعت الانتفاضات في فلسطين، وأصبحت قوى المقاومة تمثل خطرا على سكان إسرائيل والمستوطنات، بل وصلت صواريخ المقاومة إلى حدود تل أبيب لاحقا، وهذا بالطبع نتيجة منطقية في سبيل استعادة الحقوق المشروعة في وقت تأكد فيه فشل عملية السلام وعدم جدية الطرف الإسرائيلي فيها وهكذا عهد بني إسرائيل. وفي جنوب لبنان ورغم الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب إلا أن الكيان الصهيوني وبغطاء أميركي نفذ عدوانا على لبنان في صيف 2006م تلك الحرب التي أدت إلى رفع مستوى الأداء والقوة لدى حزب الله فخرج الحزب من تلك الحرب بأقوى مما كان، وأصبح يمثل تهديدا مباشرا على إسرائيل أكثر مما سبق، بل إن خط المقاومة أصبح يمثل خطا دوليا يمر من طهران إلى العراق وسوريا ولبنان وانتهاء بفلسطين. وفي سوريا وقفت الولايات المتحدة مع دول أعداء سوريا لإسقاط الدولة السورية وتكفلت بعض الدول بدعم التنظيمات المسلحة، ولكن صمود الدولة السورية بمنظومتها السياسية والعسكرية والاجتماعية ودعم الحلفاء تحقق الانتصار على الإرهاب وداعميه وهو يعتبر هزيمة للمشروع الصهيو ـ أميركي المعادي في المنطقة. إذن، سوريا هنا تعتبر قصبة الميزان وما بعد انتصارها ليس كما قبله، علما أن المليارات التي أنفقت لإسقاط الدولة السورية لو استخدمت في مسارات إنسانية أخرى لحقنت الكثير من الدماء، وحققت الرفاه والاستقرار في كثير من الدول، ولكن هذه إرادة الشيطان ومن يتبع الشيطان فهو وليه . اليوم تغيرت كل المعادلات الدولية في المنطقة، فوجدت الولايات المتحدة نفسها تسير عكس التيار، فأرادت تدارك الأمر من خلال إجراء بعض التعديلات بدأتها بإعلان ترامب الانسحاب من سوريا دفع وزير دفاعه ماتيس إلى الاستقالة؛ كونها مثلت حالة من الهزيمة أو بالأحرى حالة من عدم التوافق بين البيت الأبيض والبنتاجون، ثم تبعتها مباشرة جولة وزير الخارجية بومبيو لعدد من الدول العربية من أجل لملمة سياستها الخارجية في المنطقة بعد حدوث بعض الأخطاء والتي ظهرت من خلال النتائج، فما تصنفه الولايات المتحدة على أنه خطر يهدد المنطقة حسب العرف الأميركي والخليجي ـ والمقصود هنا إيران ـ أصبح لها الكلمة الطولى في العراق، وأصبح قائد حرسها الثوري يتجول في العراق كيفما شاء جولات من نوع آخر، وأصبح التواصل الجغرافي بين خط المقاومة الممتد من روسيا إلى فلسطين يمثل تهديدا أكبر لمصالح الولايات المتحدة الأميركية ليس بالمنطقة فحسب، بل على الصعيد العالمي، وهو ما يمثل دلالات خطيرة في المجال الاستراتيجي. إذن الولايات المتحدة أمام واقع جديد متغير لا بد من النزول على الأرض لمعالجته بدلا من المعالجات الفوقية، وجولة بومبيو تعد تمهيدا أوليا لمعالجات قادمة وتغييرات على الخريطة السياسية الأميركية في المنطقة، وأولى أولويات هذه المعالجات هو ترميم حالة التحالف الأميركي المتشظية بعد حدوث الأزمة الخليجية التي تجاوزت المدى المتوقع أمام مسمع ومرأى واشنطن دونما إحداث أي حراك حقيقي لمعالجتها، بل إن هذه الأزمة أدت إلى لجوء أحد أطرافها (دولة قطر) للاستعانة بأطراف دولية تعتبرها واشنطن مناوئة لها والولايات المتحدة كانت تراقب الوضع من بعيد، وبالتالي فقد أحدثت هذه الأزمة تراجعا كبيرا لمنظومة أصدقاء الولايات المتحدة، وأصبحت هذه المنظومة متشظية في وقت كان بإمكان واشنطن لعب دورها المؤثر على جميع أطراف الأزمة لحلحلتها وانتهائها، ولكن استمرارها إلى هذا الوقت أضاف إليها خللا آخر وأزمة ثقة قد لا تتوفر لاحقا، وبالتالي فإن من أهم أولويات جولة بومبيو حلحلة هذه الأزمة رغم أن حلها كان في وقت سابق أسهل مما هو عليه اليوم، ولكن السياسة الأميركية ربما كان لها خطوط تأثيرها القصيرة والمتوسطة في معالجة بعض القضايا حسب مقتضيات وقتية قد تؤول إلى غير صالحها في البعيد المنظور . من أهم أهداف الزيارة والذي أعلنته الخارجية الأميركية وضع حد لإيران، وهي لا تسوقه إعلاميا فقط، بل هو حقيقة الموقف الأميركي الراهن، فنظرا لما ذكرناه سالفا من تمدد لخط المقاومة أو الخط المناوئ للسياسات الأميركية بدءا من روسيا والصين، مرورا بإيران والعراق وسوريا ولبنان، وصولا إلى فلسطين، فإن ذلك يعني للولايات المتحدة لا بد من قطع هذا الخط، وأسهل نقطة يمكن أن تقطع فيها الولايات المتحدة هذا الخط هو العراق، وعليه فإن تغيير قواعد اللعبة في العراق بات مطلبا مهما، كيف ومتى وبأي طريقة؟ هنا الأيام أو الأشهر القادمة ستكشف عن حقيقة هذا الاتجاه، وهناك اتجاه آخر متوقع بعد ترميم التحالف الأميركي وإصلاح الخلل الذي أصابه في دول الخليج العربية وتركيا ثم العودة إلى المربع الأول بتهديد إيران بشكل مباشر وربما محاولة استهدافها من الداخل أو تهديدها عسكريا، وهذه تعتبر أولوية لاحقة بعد نجاح ترميم الحلف الأميركي . وتظل فكرة “صفقة القرن” مسألة مهمة وذات أولوية، ولا تحتاج أكثر من قبول دول الجوار الفلسطيني وبعض المنح المالية الأميركية، قد تكون هي الحافز الأهم في سبيل تحقيق تلك الفكرة، وأما الحرب على اليمن فقد تقدم الحديث عنها باتفاق ستوكهولم، وينتظر أن تستمر المباحثات لإنهاء الأزمة اليمنية، والأهم لدى الولايات المتحدة في اليمن هو الممرات الملاحية الدولية، وقد أخذت أولويتها، ونأمل أن تكلل باقي مساعي السلام بنجاحات تنهي تلك الأزمة التي يعيشها أبناء الشعب اليمني . وأخيرا، فإن بقية ما تم تسويقه من أهداف للزيارة من قبيل تعزيز العلاقات الثنائية والملتقيات الاستراتيجية بين الولايات المتحدة والدول التي شملتها جولة بومبيو فما هي إلا تحصيل حاصل لتلك الزيارة، ولكن مرتكزات الزيارة الرئيسية هي تلك الأهداف سالفة الذكر لمحاولة إعادة رسم الخط البياني الأميركي بشكل تصاعدي في مواجهة الخط الدولي الآخر، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستنجح واشنطن في لملمة تشظي سياساتها السابقة أم أن الزمن قد تجاوزها؟
خميس القطيطي – الوطن العمانية
Discussion about this post