تتوالى عروض دولية وإقليمية تطلب من الدولة السورية الموافقة على شريط بطول حدودها مع تركيا عمقه 40 كيلومتراً يتمركز فيها الجيش التركي لمراقبة تحرك «الكرد» السوريين مقابل سيطرة الجيش السوري على معظم شرق الفرات السوري أيضاً.
فيبدو العرض كمن يبيع يده اليمنى ليكسب يده اليسرى أو العكس.
هناك إضافة صغيرة تكمن في العمق الماكر لهذا التفصيل مفادها أنّ الأميركيين يواصلون نشر نقاط مراقبة مكثفة لقواتهم داخل حدود العراق المواجه لسورية وبحسبة الأسواق يتبيّن انّ الدولة السورية تخسر حدودين كاملتين لبلدها مع الشمال والجنوب مقابل الإمساك بالوسط الجامع بينهما إذا قبلت العرض المشبوه.
الجواب السوري لم يتأخر، لأنّ العرض ليس قابلاً للدرس ببعده الوطني أولاً وأخيراً، هناك بالتأكيد أسباب اقتصادية واستراتيجية هامة جداً لكنها تتراجع أمام الموضوع الوطني الذي لا تُقصرُ فيه أبداً دولة بشار الأسد، وإلا كيف يمكن استيعاب قتالها الجهادي العنيف لتحرير كلّ حبة تراب من «سوريتها» في العقد الأخير بكامله متواصلاً حتى تحرير آخر جيب يحتله الإرهاب وداعش والترك والأميركيون والفرنسيون و»الإسرائيليون» وآخرون.
ألا يستدعي هذا التعدّد في المحتلين واجتماع تآمرهم على سورية التفكير العميق بالأهمية الجيواستراتيجية لهذا البلد؟ مع التمعّن الدقيق في تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي وصف فيها سورية بأنها «رمال وموت وثروات متواضعة».
وهذا يتناقض مع العدد الكبير من الساعين الى احتلال قلب بلاد الشام وتفتيتها أم تراهم أتوا إليها ليبحثوا عن الموت والرمال في ثناياها؟
لذلك فإنّ ترامب يبحث عن مبرّرات لخسارة مشروعه بتفتيتها فيكشف عن «عفة متصنّعة» للانسحاب، تشبه عفة السمسار العاجز عن الحصول على مبتغاه.
للتذكير فقط أنّ إدارة ترامب تعرف ذلك. فسورية هي مركزية بلاد الشام بكامل دوله ومناطقه المحتلة والعراق، ولولا تمسكها بالقضية الفلسطينية لما نجت من كلّ الأحابيل والمحاولات الغربية لنسفها، ولها أدوار في لبنان والأردن والعراق وتستطيع في حالات وضعها الطبيعي التأثير في جامعة الدول العربية. وتركيا تعرف مدى التأثير السوري على تركيبتها الاجتماعية.
إنّ دولة بهذه الأهمية الإقليمية ليست بحاجة لثروات آل سعود وخليفة وزايد حتى تستطيع ردع الأميركي وحليفيه «الإسرائيلي» والتركي عن الطمع بها.
لعلّ هذا ما أرغم الأميركيين على وضع خطة لإعادة تضخيم أدوار ثلاثة أطراف في الشمال والشرق السوريين: منظمة داعش التي يرعى الأميركيون نموّها مجدّداً قرب حدود سورية الجنوب – شرقية مع العراق وفي أنحاء أخرى ومنظمة النصرة في أرياف حلب وحماة وإدلب، أما الطرف الثالث فهم الترك الموعودون «بجنات ترامب» والحالمون باتفاقات مع الروس تؤدّي الى غضّ طرف إيراني، وذلك لتحقيق طموح تركي في الهيمنة على الشمال السوري وصولاً الى إدلب استناداً الى مزاعم أردوغانية تزعم وجود مشروع كردي إرهابي.
وهنا يخطئ الترك مرة جديدة، فإذا كانت واشنطن متواطئة معهم فلا إيران ولا روسيا بوارد الموافقة على تقدّمهم في الأرض السورية. وهما مستعدتان للتعاون مع الدولة السورية في إجهاض جموح أردوغان.
ضمن هذه المعطيات يعمل الأميركيون على بؤرة كبيرة لداعش في الجنوب وأخرى للنصرة في الشمال وثالثة للترك داخل الحدود السورية، فيؤسّسون بذلك لاقتتال كبير مع الدولة السورية وتحالفاتها الروسية الإيرانية، معيدين بذلك تركيا الى المشروع الأميركي «الإسرائيلي» ومتلاعبين بالإرهاب الإسلاموي حسب حاجات مخططاتهم، الأمر الذي يجعل من تصريحات ترامب حول الموت والرمال مجرد اختباء من إعلان هزيمته ومحاولة متجدّدة لإعادة الصراع المفتوح على مختلف مصاريعه وبشكل تدميري جداً قد يؤدّي لبعثرة الجغرافيا السياسية في سورية في كلّ اتجاه وريح. وهذا ينتج فوراً إضعافاً لقوة الدولة السورية في الداخل والإقليم مع ضياع نهائي للجولان السوري المحتلّ بذريعة أنّ الدولة التي كان جزءاً منها انهارت وتفرّقت أيدي سبأ فتأكله «إسرائيل» نهائياً.
ما يؤكد على هذا السيناريو هي تلك الاشتباكات بين «هيئة تحرير الشام» النصرة سابقاً من جهة والجبهة الوطنية للتحرير من جهة ثانية والمنظمات الاخوانية والتركمانية التابعة بشكل مباشر للمخابرات التركية وبشكل أقوى من «النصرة والوطنية» في الشمال والجنوب والشرق.
اذاً هناك إصرار على احتلال الأمكنة والزوايا للمشاركة في الخطة الأميركية للتفتيت.
أما ما يقابل هذه الخطة فيتعلق بإصرار الدولة السورية على إجهاض مرحلة الصراع وفق «أجندة» متفق عليها مع الحلفاء الإيرانيين والروس وتحت شعار أنّ سورية ليست للبيع.
كما يبقى الجولان أرضاً سورية محتلة تعمل الدولة على استعادتها بكلّ السبل العسكرية والمتنوّعة في صراع مفتوح زمنياً لارتباطه بالصراع السوري الروسي الإيراني مع المحور الأميركي الأطلسي «الإسرائيلي».
وهنا لا بدّ من التنويه بمقدرة الانتصار السوري في إعادة جذب دول عربية بدأت بالعودة الى دمشق. أليس هذا من مؤشرات النصر الكبير وفشل مسبق لكلّ الخطط الأميركية التركية «الإسرائيلية» الجديدة؟
فكما كان رحيل العرب من سورية بداية للمشروع الإرهابي في الشام، فإنّ عودتهم دليل على انكسار هذا المشروع مهما تعدّدت ألوانه ومسمّياته.
د. وفيق إبراهيم – البناء
Discussion about this post