لعيد الميلاد في لبنان صورة مختلفة عن كل العالم العربي لما للمسيحيين فيه من حضور قديم ساعد على هذا التمايز .. لكن المسلمين فيه كانوا قد نسوا أي انتماء ديني، ولولا المفاعيل السياسية التي دخلت على لبنان، وأعادت النظر بتعايش مسلميه ومسيحييه لكان الوضع فيه غاية الاختلاف عما وصل إليه في أوقات لاحقة وإلى اليوم.
في كل الأحوال، أذكر إبان طفولتي أني كنت أعود من المدرسة سيرا على الأقدام، وكنت أمر شبه يومي برجل ينام على سرير مقابل الطريق ما أن يرانا حتى يسلم علينا بحنان غريب، وفي يوم سألت عن اسمه فقيل لي إنه شاعر يدعى الأخطل الصغير واسمه الحقيقي بشارة الخوري وهو مريض لا يحسن الجلوس إطلاقا.
في ذاكرتي عيد الميلاد اليوم ما يحفزني للاعتراف بالطقس الذي كنت أمارسه كلما ذهبت للسلام على الشاعر، فقد كنت أمر من أمام كنيسة كنت أرى نسوة ورجالا يمرون أمامي وكلما صاروا قربها رسموا على وجوههم بأصابعهم صليبا .. هذا المشهد جعلني أخاف من المرور إن لم أفعله، وهكذا بت كلما مررت بقرب الكنيسة أرسم الصليب مثل الآخرين دون معرفة بكوني من المسلمين أو من المسيحيين. وحين كانت إحدى دور السينما في المنطقة تعرض يوم الميلاد قصة السيد المسيح، كنت أول المشاهدين له.
تعمقت في داخلي تلك الظاهرة، ويبدو أن نوعية التربية التي يتلقاها المرء في طفولته تأسره تماما، فكيف عندما كنت أرى أشجار الميلاد والزينة، ثم تليها ليلة رأس السنة الميلادية أيضا والتي كانت في لبنان احتفالا حتى الصباح، وكان المسلمون قبل المسيحيين يعبرون عن فرح كامن في نفوسهم، بل يتبادلون التحيات عند اللحظة التي يقفز فيها عقرب الساعة الثانية عشرة.
ويوم عرض فيلم يسوع الناصري للمخرج الإيطالي زيفرللي وجدتني أول المشاهدين له، بل غرقت في بكاء لا أعرف سببه وأنا أتتبع عذاب السيد المسيح وعملية صلبه، ناهيك عن الفيلم الأخير الذي تناول تلك العذابات لمخرجه وممثله ميل جيبسون وما فعله في نفسي من ألم لما عليه من قساوة المشاهد التي سبقت الصلب ثم أثناءه.
كلنا مسيحيون وكلنا مسلمون، كما كان يقول أحد رجال الدين، بل وصل الأمر بالكاتب المهم مارون عبود، وهو مسيحي ماروني من إطلاق اسم محمد على أحد أولاده واعتبر يومها ظاهرة.
لعن الله سياسة المصالح عندما تدق باب أي مجتمع كان، وخصوصا الضعفاء الذين يشعرون أنهم بحاجة لحماية يفسرها الحامي عكس ما يفكر به من ظن أنه سيحميه فإذا به يستغله ويستخدمه لتحقيق مآربه وحساباته المصالحية الخاصة .. بهذا المفهوم أدخل لبنان في شرور السياسة الدولية والإقليمية ظنا من البعض الذي يتزعم أنه قادر على تغيير المعادلة القائمة، وأدى ذلك في نهاية الأمر إلى افتراق المسيحيين والمسلمين بعد التقاتل والتنابذ، وكانت لإسرائيل يدها الطويلة في هذا الأمر، وهي التي خططت منذ قيامها باستدراج لبنان إلى هذا المنحى الخطر من أجل تقسيمه وتفتيته، وهو في الأساس لا يملك المساحة الكافية لإحداث القسمة تلك.
بعد أكثر من خمس وعشرين سنة من نهاية ذلك الاقتتال، ما زالت هنالك أحاسيس طائفية لن تلغى بسهولة كونها قامت على الدم الذي جوبه بدم مقابل، وعنف قابله عنف آخر.
لكن ماذا يفعل من هم مثلي وقد قامت حياتهم على التفاعل بين الأديان، حتى أني نسيت ذات يوم إلى أي دين أنتمي؟!
زهير ماجد – الوطن العمانية
Discussion about this post