تمكَّن حزب الشعب الجمهوري من تحقيق تقدم غير مسبوق في عموم تركيا، وفي أكبر البلديات، خلال الانتخابات المحلية التي أجريت يوم 31 مارس 2024، وهو ما يُعَد ضربة كبرى لحزب العدالة الحاكم، وخسارة شخصية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي حشد كافة مُقدَّرات الدولة لمصلحة مرشحي الحزب الحاكم، وكثَّف حضوره المؤتمرات الانتخابية لمرشحي إسطنبول وأنقرة؛ سعياً إلى ضمان إحالة مرشحي المعارضة إلى التقاعد بحسب قوله، بيد أن جهود وإجراءات أردوغان لم تفلح في تأمين استعادة البلديات الكبرى. وأقر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في خطاب له عشية انتهاء فرز غالبية الأصوات، بخسارة حزبه، قائلاً إنهم سيُحاسِبون أنفسهم، وسيُعالِجون أوجه القصور، وأضاف أن “الانتخابات البلدية ليست نهاية الطريق، لكنها نقطة تحول”، وتابع: “الشعب يقول كلمته عبر الصندوق، ويرسل إنذاره إلى السياسيين عبر الصندوق”.
دلالات رئيسية
انعقدت الانتخابات المحلية التركية التي يتم من خلالها اختيار رؤساء البلديات والإداريين في الولايات البالغ عددها 81 ولاية. وقد اكتسبت هذه الانتخابات أهميةً كبيرةً لكون النظام الحاكم كان يراهن عليها لتعزيز نفوذه واستعادة البلديات الرئيسية من أيدي المعارضة. وفي هذا الصدد، اتسمت الانتخابات البلدية في تركيا بدرجة غير مسبوقة من التعقيد والاستقطاب السياسي؛ إذ كشف المشهد الانتخابي عن عدد من الدلالات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– تضخم أعداد المرشحين في البلديات الكبرى: اتسمت الانتخابات المحلية الراهنة بتصاعد حدة المنافسة بين الأحزاب التركية للفوز بالبلديات الكبيرة؛ فعلى سبيل المثال، تنافس على منصب رئاسة بلدية إسطنبول 49 مرشحاً: 22 يمثلون الأحزاب السياسية بجانب 27 مرشحاً مستقلاً، بينما تنافس في بلدية أنقرة 24 مرشحاً: 19 ينتمون إلى أحزاب سياسية، و5 مستقلون. وترتبط كثافة المنافسة بين الأحزاب في البلديات الكبيرة، في جانب معتبر منها، بتفكك تحالف “الأمة” المعارض الذي تأسس عام 2023، والمعروف باسم “الطاولة السداسية”.
وتجدر الإشارة إلى فشل مساعي الرئيس الجديد لحزب الشعب الجمهوري” أزغور أوزال” لإبقاء التحالف أو على الأقل ضمان صيغة تعاون مع الكيانات الحزبية الرئيسية، وخاصةً الحزب الجيد؛ إذ رفض الأخير أي نوع من صيغ العمل المشترك في الانتخابات المحلية.
2– دخول الأكراد على خط انتخابات البلديات الكبرى: ترتبط السياقات التي تشهدها الانتخابات المحلية الراهنة، في جانب منها، بدخول التيار الكردي على خط المنافَسة في انتخابات البلديات الكبرى. وتجلى ذلك في دفع حزب المساواة الشعبية والديمقراطية الجناح السياسي للأكراد بمرشحين في كل من إسطنبول وإزمير والعاصمة أنقرة. وتعود منافسة الأكراد على البلديات الكبرى لأول مرة إلى تصاعد المخاوف من هيمنة حزب العدالة والتنمية على مفاصل المشهد التركي، وهو ما يعني منحهم فرصة أكبر لتمرير الخطط الأمنية التي يتم هندستها في التوقيت الحالي مع العراق لمحاصرة الحضور التركي في المنطقة.
3– تأثير تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي: تأتي الانتخابات المحلية الأخيرة وسط استمرار تراجع مؤشرات الاقتصاد التركي، وكشف عن ذلك زيادة معدل التضخم، الذي وصل بنهاية فبراير 2024 إلى 67.1% على أساس سنوي، بالإضافة إلى ارتفاع أرصدة الديون الخارجية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة؛ حيث تُقدَّر بنحو 219.9 مليار دولار، وهو رقم قياسي، ناهيك عن استمرار التدهور في سعر صرف الليرة.
وبرغم تبني أنقرة سياسة نقدية جديدة بعد انتخابات مايو 2023، فإن التحسن لا يزال محدوداً، وهو ما ظهر في ارتباك السياسات المالية للبنك المركزي التركي؛ حيث تم تغيير مُحافِظة البنك المركزي “حفيظة غاية أركان” في 2 فبراير 2024، وتعيين نائبها خلفاً لها، بالإضافة إلى محاولات الحكومة التركية تطوير المحادثات مع البنك الدولي لمضاعفة قروضه لتركيا إلى 35 مليار دولار؛ للمساعدة على استقرار الاقتصاد من جهة، وتوفير سيولة مالية يمكن من خلالها معالجة تداعيات زلزال 6 فبراير الذي ضرب محافظات جنوب تركيا من جهة أخرى.
4– هيمنة الحشد السياسي على العملية الانتخابية: تتردد أصداء عبارة الرئيس “رجب طيب أردوغان” دائماً مع كل انتخابات محلية، التي قال فيها: “مَن يسيطر على مدينة إسطنبول يمكنه أيضاً حكم البلاد بأكملها في الانتخابات العامة”؛ فمن خلال هذه العبارة، أعطى الرئيس التركي بُعداً سياسياً آخر للمنافسة في الانتخابات المحلية الحالية، خصوصاً في المدن الكبرى؛ فخلال الانتخابات المحلية السابقة التي أجريت في عام 2019، فازت المعارضة في بلديات كبرى مثل العاصمة أنقرة وإسطنبول، لتُنهِي بذلك سيطرة الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” التي استمرت لمدة 25 عاماً على تلك المدن.
وتعتبر خسارة إسطنبول، بوجه خاص، ضربة قوية لـ”أردوغان” الذي بدأ حياته السياسية في البلاد رئيساً لبلدية إسطنبول عام 1994، التي يبلغ عدد سكانها نحو 16 مليون نسمة. وتأتي الانتخابات المحلية الحالية بعد عشرة أشهر من فوز “أردوغان” بالانتخابات الرئاسية، وحصول حزبه الحاكم على الأغلبية في البرلمان؛ وذلك عقب تحالفه مع حزب “الحركة القومية” وأحزاب أخرى صغيرة. وفي هذا الصدد، كان يُنظَر إلى الانتخابات ونتائجها باعتبارها محدداً لمصير عدد من الساسة المعارضين أيضاً، وعلى رأسهم عمدة إسطنبول الحالي “أكرم إمام أوغلو”.
5– تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية: استفاد مرشحو أحزاب المعارضة في البلديات الكبيرة من تراجع جاذبية العدالة والتنمية لحشد قواعده الانتخابية، وهو ما ساعد مرشحي حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول وأنقرة وبورصة على تأمين الفوز في هذه البلديات، ونفي جميع الاتهامات التي نُسِبت إليهم من قِبَل الحزب الحاكم، الذي سعى إلى تشويه صورتهم، واتهامهم بالفساد، وتجاوز القواعد القانونية في البلديات.
وعلى الرغم من نجاح حزب العدالة والتنمية في حسم الانتخابات البرلمانية والتشريعية التي أُجريت في مايو الماضي، فإن ذلك لا يعني تصاعد الرصيد التقليدي في الشارع التركي؛ فمقارنة عدد الأصوات والنسب التي حصل عليها الحزب الحاكم في الانتخابات الرئاسية ومنافسوه في عام 2023، تشير إلى تراجع في شعبية الرئيس التركي في عموم تركيا، وبخاصة في المدن الكبرى التي صوَّتت لمصلحة مرشح المعارضة.
وأشارت العديد من التقديرات إلى أن حظوظ المعارضة لا تزال الأعلى في المناطق الحضرية. وتجدر الإشارة إلى أن شعبية أردوغان شهدت تراجعاً ملحوظاً في عام 2023 مقارنةً بعام 2018؛ حيث حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة على 49.51%، بعدما كان قد حصل على 52.3% خلال رئاسيات 2018.
6– تصدُّع تحالف السلطة الحاكم “تحالف الشعب”: جاءت الانتخابات المحلية الراهنة وسط تصدُّع لافت داخل تحالف الشعب الذي يقوده حزب العدالة والتنمية، وظهر ذلك في انسحاب حزب “الرفاه من جديد” الذي يقوده فاتح أربكان من التحالف؛ حيث خاض الاستحقاق المحلي منفرداً. ومثَّل دفع حزب “الرفاه من جديد” بمرشحين في البلديات الكبرى، فرصة وفَّرت بيئة خصبة لفوز المعارضة؛ إذ تشتَّت أصوات الكتل التقليدية والمحافِظة داخل المحافَظات التركية الكبرى بين العدالة والتنمية ونظيره الأيديولوجي الرفاه، الذي يعتبره كثير من الأتراك المحافِظين امتداداً لمبادئ “الرؤية الوطنية” التي وضعها نجم الدين أربكان.
7– تقدُّم حزب الشعب الجمهوري المعارض: فقد كشفت النتائج المعلَنة عن تقدُّم حزب الشعب الجمهوري بصورة ملحوظة؛ فقد فاز مرشحو الحزب في 35 بلدية ليحصل على 37.75% من إجمالي الأصوات، بينما جاء بعده حزب العدالة والتنمية الذي حصل على 35.48%. هذه النتائج تدلل على استمرار نفوذ حزب الشعب الجمهوري وقدرته على الضغط على النظام الحاكم.
لقد تمكَّن مرشحو الشعب الجمهوري من استمرار السيطرة على البلديات الكبرى، وخاصةً إسطنبول؛ فبالإضافة إلى حسم رئاسة البلدية، تمكَّن الحزب من الفوز بــ26 من أصل 39 مقاطعة ومنطقة في إسطنبول. وفي أنقرة، فاز حزب الشعب الجمهوري في 16 دائرة من أصل 25، بما في ذلك منطقة كيتشيورين ثاني أكبر مناطق العاصمة من حيث عدد السكان، التي يحكمها حزب العدالة والتنمية وأسلافه منذ عام 2002.
كما نجح الحزب في الحفاظ على صدارة المشهد في بورصة وإزمير وغيرهما من المدن الكبرى. وفي هذا السياق، فإن حزب الشعب الجمهوري، يكون قد رفع رصيده في بلديات المدن والمحافظات من 21 إلى 35. ويشير فوز حزب الشعب الجمهوري بـ37.75% من إجمالي الأصوات – وهي نسبة تجاوزت ما حصل عليه الحزب في عام 2019، التي وصلت إلى نحو 16% – إلى تأييد قطاعات محلية واسعة لسياسات حزب الشعب، وتُعبِّر في الوقت ذاته عن حالة الرضا عن أداء مرشحيه في إدارة البلديات والتعامل مع قضاياها المُلحَّة، كما أن فوز حزب الشعب الجمهوري، ومن خلفه حزب “الرفاه”، يدل على خطأ حسابات أردوغان الذي راهن على أن تفكُّك تحالف المعارضة “الطاولة السداسية”، يؤهله لحسم الانتخابات المحلية بسهولة.
8– حضور العنف السياسي في المشهد الانتخابي: لم يَغِبْ العنف عن المشهد الانتخابي المحلي في تركيا، خاصةً في الأقاليم ذات الأغلبية الكردية، التي دائماً ما تشهد هذا النوع من العنف خلال المحافل الانتخابية المختلفة؛ فعلى سبيل المثال، اندلعت أعمال عنف بين أنصار “حزب المساواة والديمقراطية للشعوب” الذي يقوده الأكراد وبين الشرطة أمام مركز اقتراع في سيرناك يوم 31 مارس؛ وذلك بفعل مزاعم تفيد بقيادة الحزب الحاكم حملةً تهدف إلى تزوير الأصوات الانتخابية، كما قُتل شخص واحد على الأقل، وأصيب 11 آخرون بعد اندلاع مشادَّة بين الناخبين في مركز اقتراع بقرية في مدينة ديار بكر ذات الأغلبية الكردية بجنوب شرق تركيا، ولم يتم حتى الآن توضيح الأسباب الكامنة وراء المشاجرة ودوافعها.
9– ضعف حضور مرشحي العدالة والتنمية: على الرغم من إعلان حزب العدالة والتنمية عن اعتماد خطة محكمة لاستعادة البلديات الكبرى التي خسرها في عام 2019، وخاصةً إسطنبول وأنقرة، فإنه لم يتمكن من تحقيق الهدف. وربما يعود ذلك – بحسب العديد من المراقبين – إلى غياب كاريزما مرشحي العدالة والتنمية في هذه البلديات؛ فمرشح بلدية إسطنبول مراد كوروم، سياسي تقليدي وأقرب إلى التكنوقراط، وارتبط حضوره السياسي بأحداث زلزال 6 فبراير؛ حيث كان يتولى وزارة البيئة والتخطيط العمراني، وهو لا يحظى بكاريزما شعبية، ولا يملك – مقارنةً بخصمه إمام أوغلو – ناصية الخطاب القادر على دغدغة مشاعر الجماهير.
في المقابل، فإن مرشح أنقرة “تورجوت ألتينوك” المدعوم من أردوغان، يبدو سياسياً تقليدياً، وبرغم جذوره العائلية وحضور السياسي في أنقرة – فهو مواليد أنقرة، ونشأ فيها – فإنه مقارنةً بمنافِسه منصور يافاش مرشح حزب الشعب الجمهوري، لم يترك بصمة داخل البلدية.
10– الأداء الخدمي المتميز لمرشحي المعارضة داخل البلديات: استفاد مرشحو المعارضة في إسطنبول وأنقرة وغيرهما في البلديات الكبرى من ارتفاع رصيد شعبيتهم بفضل أدائهم المحلي، ومواقفهم السياسية الرافضة لهيمنة حزب العدالة والتنمية على مفاصل المشهد السياسي التركي، وهو ما وفَّر بيئة خصبة لحشد الناخبين، وتعزيز حضورهم؛ فقد كشفت استطلاعات الرأي عن صعود شعبية أكرم أمام أوغلو في إسطنبول بعد تصدِّيه لمشروع قناة إسطنبول المائية الجديدة، بالإضافة إلى خطابه المناهض للاجئين الذين يُشكِّلون عبئاً على البلدية، بالإضافة إلى صورته الذهنية لدى قطاعات واسعة من جمهور البلدية بعد نجاحاته في معالجة عدد واسع من ملفات البلدية المتراكمة.
كما يحظى “يافاش” برصيد وافر من الحضور السياسي؛ ليس في أنقرة فقط، بل في عموم البلاد. ويعود ذلك إلى نجاحاته في تجاوز الكثير من القضايا المحلية التي كانت تؤرق بلدية أنقرة، بالإضافة إلى ابتعاده عن التجاذبات السياسية التي شهدتها تركيا في السنوات الأخيرة، كما تجدر الإشارة إلى أن يافاش يحظى بشعبية لافتة بين القوى السياسية التركية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها؛ حيث يتمتع بحضور في قواعد التيار القومي، كما يحظى بقبول بين مناصري الحزب الحاكم بعد أدائه في إدارة ومعالجة تحديات بلدية أنقرة.
11– الخبرة السياسية لرموز المعارضة في جذب الكتل التصويتية: كان لخبرة أمام أوغلو ومنصور يافاش، سواء المتعلقة بخبرة الإدارة البلدية أو تصميم الحملات الانتخابية المحلية، دور بارز في جذب الكتل التصويتية، وترويج برامجهما الانتخابية. وبرز ذلك بوضوح في قدرة خصوم العدالة والتنمية على جذب أصوات القواعد الداعمة للمعارضة رغم تفكُّك تحالف الأمة. وربما ساعد على ذلك الخبرة الانتخابية المحدودة لمرشحي الحزب الحاكم في إدارة العملية الانتخابية؛ إذ إن جزءاً معتبراً من أسباب فوزهم في الانتخابات البرلمانية، ارتبط بدعم الحزب الحاكم لهم، وإدارته حملاتهم الانتخابية.
12– صعود ملحوظ للأحزاب الصغيرة: شهدت الانتخابات المحلية تقدماً ملحوظاً لبعض الأحزاب الصغيرة؛ حيث فاز حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الجناح السياسي للأكراد بـ10 ولايات. وجاء هذا الفوز بالتزامن مع سياسات التضييق التي تتبنَّاها الحكومة التركية ضد الأحزاب الكردية، واتهامها بدعم منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية. في المقابل، حل “حزب الرفاه من جديد” قوةً ثالثةً في ترتيب الأصوات بعد حصوله على 6.2% من الأصوات على المستوى الوطني، وتمكُّنه من الفوز ببلديتين في جنوب ووسط تركيا على حساب مرشحي العدالة والتنمية، بينما فاز “الحزب الجيد” ببلدية محافظة واحدة. بالتوازي، فاز مرشح الحزب الشيوعي التركي فاتح محمد ماتش أوغلو برئاسة بلدية ولاية تونج إيلي (شرقاً)، وهو أول فوز للحزب برئاسة إحدى البلديات. ويؤكد فوز الحزب الشيوعي تصاعد فرص تغير خارطة الحياة الحزبية خلال المرحلة المقبلة.
13– ارتفاع تصويت المدن الكبرى ووسط الأناضول والولايات الكردية للمعارضة: عكست نتائج الانتخابات المحلية ارتفاع النسب التصويتية لناخبي المراكز الحضرية، على غرار أنقرة التي صوَّت فيها أكثر من ثلاثة ملايين ناخب. وحصل مرشح حزب الشعب الجمهوري “منصور يافاش” على 50.62%، بينما حصل منافسه مرشح العدالة والتنمية على 47.20%، بل تراجع التصويت لحزب العدالة والتنمية في الولايات الحضرية؛ حيث انخفض عدد البلديات الحضرية التابعة لحزب العدالة والتنمية إلى 11 بعد أن كانت 15 في انتخابات 2019، كما تراجع عدد المقاطعات إلى 13 بعد أن كانت 24، وانخفض عدد المناطق إلى 360 بعد أن كانت 535.
بالتوازي، جاءت النسبة الكبرى من الأصوات في وسط الأناضول وبحر إيجه ومعظم منطقة مرمرة، لأول مرة، لمصلحة حزب الشعب الجمهوري، كما فاز حزب المساواة وديمقراطية الشعوب المحسوب على الأكراد بغالبية أصوات مدن ومحافظات جنوب شرق تركيا؛ حيث الغالبية الكردية من السكان.
14– تعزيز التمثيل النسائي في البلديات: في سياق الانتخابات المحلية، تمكَّنت 11 مرشحة من الفوز برئاسة بلدية 11 ولاية تركية من أصل 81 ولاية، مقارنةً بــ4 نساء فقط في انتخابات عام 2019. وكانت غالبية الفائزات من حزب الشعب الجمهوري بواقع 6 مرشحات، مقابل مرشحة لحزب العدالة والتنمية، و4 مرشحات عن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب الكردي.
تداعيات رئيسية
تحمل نتائج الانتخابات المحلية التركية عدداً من التداعيات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– تعزيز قدرة المعارضة على استثمار قصور النظام في معالجة الأزمات: يرتبط فوز المعارضة بالبلديات الكبرى مجدداً باستغلال عدم قدرة الحزب الحاكم على معالجة الإشكاليات التي تمرُّ بها تركيا، وفي صدارتها الجهود المبذولة لمعالجة الآثار التي خلَّفها زلزال 6 فبراير 2023، بالإضافة إلى تداعيات الأزمة الاقتصادية التي أدت إلى تراجع الأوضاع المعيشية في تركيا بصورة لافتة في ظل استمرار ارتفاع الأسعار، كما تمكَّن مرشحو المعارضة من توظيف اتهامات قطاعات شعبية واسعة لحكومة العدالة والتنمية بالفشل في معالجة القضايا الحساسة، ومنها رواتب المتقاعدين، والفساد، واتهامات الرشوة. وهكذا يمكن أن يساعد هذا النهجُ المعارَضةَ في المستقبل من أجل الضغط على النظام الحاكم في أي استحقاقات سياسية قادمة.
2– التأثير السلبي لخسارة إسطنبول على حزب العدالة والتنمية: ربما تمثل خسارة “أردوغان” لإسطنبول في الانتخابات المحلية لعام 2019 لصالح المعارضة، ضربةً موجعة لحزبه، كما أن النتيجة التي جاءت عقب إعادة الانتخابات لمرتين بين مرشح حزب “العدالة والتنمية” و”حزب الشعب”، قد كانت بمنزلة عقاب من الرأي العام التركي لـ”أردوغان”؛ لتبنيه بعض السياسات التي لم تَحْظَ بشعبية واسعة، خاصةً في أوساط التيار الليبرالي.
لقد كان “أردوغان” يأمل أن يتمكن، عبر “مراد كوروم”، من استعادة المدينة من يد “أكرم إمام أوغلو” مرشح حزب “الشعب” والعمدة الحالي للمدينة الذي يتمتع بشعبية وجماهيرية واسعة في أوساط الناخبين بإسطنبول ذوي الخلفيات السياسية والعرقية والدينية والاقتصادية المتنوعة.
وفي هذا الصدد، وصف البعض الانتخابات المحلية الحالية في إسطنبول بأنها معركة بين “أكرم إمام أوغلو” و”أردوغان” بصورة شخصية، الذي مثَّلت المدينةُ نقطة انطلاقة هامة في مسيرته السياسية، وهي المدينة التي تسيطر أيضاً على جزء كبير من الاقتصاد التركي الحالي، بما في ذلك التجارة والسياحة والتمويل. وفي ظل توقع ترشيح حزب “الشعب” لـ”أوغلو” ليمثل الحزب في الانتخابات الرئاسية القادمة لعام 2024، فإن فوزه بمنصب عمدة إسطنبول يُعزِّز فُرَصه للفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة.
3– تأكيد تزايد شعبية حزب الرفاه: شهد الرصيد الشعبي لحزب “الرفاه من جديد” الإسلامي – الذي يتقاطع مع العدالة والتنمية في جانب واسع من معتقداته الفكرية والسياسية – تطوراً متنامياً خلال الآونة الأخيرة، خاصةً بعد تبنيه خطاباً أكثر تشدداً من موقف أردوغان تجاه الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما أدى إلى تقوية الدعم المُقدَّم له في الانتخابات المحلية.
وتمكَّن حزب الرفاه من مزاحمة نظيره الأيديولوجي العدالة والتنمية على أصوات البلديات الكبرى، كما تمكن من الفوز في مدينة شانلي أورفا على حساب مرشح الحزب الحاكم. وتجدر الإشارة إلى أن حزب “الرفاه من جديد”، رغم حداثة نشأته، زاد عدد أعضائه من 260 ألفاً في عام 2018 إلى 474 ألفاً بنهاية العام الماضي. وخاض الحزب الانتخابات البلدية من خلال قائمة تضم 617 مرشحاً ينافسون على 30 بلدية حضرية، و51 بلدية إقليمية، بالإضافة إلى 456 مقاطعة، و90 منطقة؛ ما يعكس طموح الحزب إلى توسيع نفوذه على مختلف الأصعدة المحلية.
4– احتمالية عرقلة خطط “أردوغان” لتعديل الدستور: وبالرغم من أنه كان من المتوقع مسبقاً أن تحافظ المعارضة على سيطرتها على المحليات؛ قام “أردوغان” بعقد تجمُّعات انتخابية في أنحاء البلاد، وحملات انتخابية نيابةً عن المرشحين لمنصب رئيس البلدية، كما صرَّح في وقت سابق بأن هذه الانتخابات المحلية، ستكون الأخيرة له وفق الدستور، وهي التصريحات التي نظر إليها منتقدوه باعتبارها مجرد حيلة لضمان أصوات وتعاطف المؤيدين، فضلاً عن كونها استراتيجية للضغط من أجل إجراء تعديلات دستورية جديدة في القريب العاجل.
ويُشير محللون إلى أن استعادة إسطنبول وأنقرة وتحقيق أداء قوي في صناديق الاقتراع، كان من شأنه أن يُعزِّز عزم “أردوغان” على وضع دستور جديد يتيح له الاستمرار في منصبه لما بعد عام 2028، ولكن مع فشل حزبه – وفقاً للنتائج المعلنة – في تحقيق هذه الغاية، فإن من غير المتوقع أن يمضي “أردوغان” في تنفيذ هذه الخطط.
5– عودة تحالف المعارضة “أحزاب الطاولة السداسية”: يمثل فوز الشعب الجمهوري بغالبية الأصوات المحلية منفرداً دون تحالف انتخابي، فرصةً لدفع أحزاب الطاولة السداسية نحو إعادة التفكير بشأن التنسيق وتوسيع التفاهمات مجدداً مع حزب الشعب الجمهوري، لا سيما أن أحزاب الطاولة لم تُحقِّق نتائج معتبرة بعد انسحابها من التحالف؛ فبينما فاز حزب الخير ببلدية واحدة، لم يتمكن حزب المستقبل أو حزب الديمقراطية والتقدم من إحراز أي فوز. ويدعم التئام تحالف المعارضة مجدداً، تصريحات رئيس حزب الشعب الجمهوري أوزيل الذي أكد مواصلة العمل مع القوى السياسية لتحييد هيمنة العدالة والتنمية على المشهد السياسي، والتصدي لممارساته السلطوية.
6– الضغط المحتمل على الرئيس التركي لتبني سياسات مغايرة: تُعرقِل وتُضعِف نتائج الانتخابات الأخيرة قدرة الرئيس التركي على استمرار تعزيز إرثه السياسي؛ فمن ناحية، ربما يعمل الرئيس على تغيير سياساته الاقتصادية، وربما يلجأ إلى التصعيد في القضايا الخارجية من أجل تعزيز شعبيته، بينما سيعزز فوز المعارضة نفوذ “إمام أوغلو” باعتباره منافساً لـ”أردوغان”، وهو ما سيدفع الرئيس التركي إلى تبني سياسات أكثر مهادنةً أو تشدداً لتعزيز شعبيته في أوساط المتشددين الإسلاميين، ومواجهة الخطر القادم من المعارضة.
7– تزايد الانتقادات للسياسة الخارجية التركية: على الرغم من أن الرئيس التركي يملك حرية حركة أكبر في إدارة ملفات السياسة الخارجية، فإن فوز المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة، قد يدفعه إلى إعادة النظر في عدد من الملفات الخارجية، لا سيما أن عدداً من قوى المعارضة التركية – وعلى رأسها حزب الشعب الجمهوري وحزب الرفاه وحزب المساواة وديمقراطية الشعوب– يعترض على إدارة سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية، خاصةً ما يتعلق بالموقف من الحرب على غزة، والانخراط في صراعات الإقليم، والعمليات العسكرية ضد الأكراد في شمال سوريا وشمال العراق.
8– إثارة المزيد من التساؤلات حول خلافة أردوغان: تُثير نتائج الانتخابات تساؤلات عديدة حول مستقبل خلافة أردوغان، ومن يستطيع أن يملأ الفراغ الذي سيُخلِّفه، ويكون قادراً على مواجهة المعارضة. وفي هذا الإطار، نشرت صحيفة “ذا وول ستريت جورنال” تقريراً أشارت فيه إلى احتمالية أن يكون الخليفة القادم لـ”رجب طيب أردوغان” في رئاسة تركيا هو صهره “سلجوق بيرقدار”، خاصةً أن أبناء “أردوغان” لا يملك أيٌّ منهم سيرة ذاتية من الإنجازات يمكن مقارنتها بإنجازات “بيرقدار”، كما أن صهره الآخر “بيرات البيرق” يواجه انتقادات واسعة النطاق بعد فترة كارثية تولَّى فيها وزارة المالية من 2018 إلى 2020، فضلاً عن أن “أردوغان” همَّش منافسيه داخل حزبه.
ختاماً، يمكن القول إن التغيرات التي شهدتها الانتخابات المحلية، وأسفرت عن خسارة العدالة والتنمية عدداً واسعاً من البلديات، مقابل صعود حزب الشعب الجمهوري؛ قد تُعزِّز مكانة المعارضة التركية في الداخل، وتسمح بتطوير صورتها الذهنية خارجياً، بيد أن هذا لا يعني قدرة المعارضة على إحداث تغيير جذري في المشهد التركي؛ فلا يزال الرئيس أردوغان وحزبه يحظى بحضور معتبر في الداخل التركي، ناهيك عن أن المرحلة المقبلة ستشكل اختباراً لمدى قدرة رؤساء البلديات من الأحزاب المعارضة على تنفيذ الوعود، خاصةً تحسين الأوضاع المعيشية، ومُحاصَرة البطالة.