أطلقت إيران، في 13 أبريل الجاري، مجموعة من صواريخ كروز وصواريخ باليستية وطائرات من دون طيار نحو إسرائيل، رداً على هجوم إسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق، في الأول من الشهر نفسه؛ ما أسفر عن مقتل أعضاء من الحرس الثوري الإيراني، من بينهم القيادي البارز في الحرس محمد رضا زاهدي. وتُعَد الهجمات الإيرانية الأخيرة أول هجوم إيراني مباشر ينطلق من الأراضي الإيرانية ضد تل أبيب منذ عام 1979.
وعلى الرغم من أن الأضرار الناجمة عن الهجوم الإيراني على إسرائيل كانت خفيفة نسبياً، فإن نطاق الضربات تجاوز “حرب الظل” بين طهران وتل أبيب التي كانت قائمةً بينهما خلال السنوات الأخيرة؛ حيث عبرت خطاً أحمر بإطلاق صواريخ ومسيرات من الأراضي الإيرانية باتجاه إسرائيل، كانت ستؤدي إلى مقتل العشرات أو المئات إذا كانت الأخيرة تفتقد إلى أنظمة الدفاع التي أسقطت المقذوفات الإيرانية قبل أن تصل إلى أهدافها.
بيد أن عدم وضوح الرد الإسرائيلي – حتى الآن – على تلك الضربات، وإذا ما كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأعضاء حكومته الأكثر يمينيةً في تاريخ إسرائيل، سيكتفون بالنجاح الإسرائيلي في اعتراضها، أو شن رد إسرائيلي ضد إيران؛ ما قد يدفع إلى تصعيد إقليمي واسع النطاق؛ يثير التساؤل حول الموقف الأمريكي بشأن التصعيد الإسرائيلي–الإيراني، وأسبابه، وحدود الانخراط الأمريكي في عمل عسكري محتمل ضد إيران.
تحركات متعددة
جاء التعامل الأمريكي مع الضربة العسكرية الإسرائيلية ضد القنصلية الإيرانية في سوريا، وما رتَّبته طهران من ضربات مضادة، متسقاً مع سياسة إدارة الرئيس جو بايدن منذ اليوم الأول لها في البيت الأبيض، لتقليل الانخراط في أزمات وصراعات منطقة الشرق الأوسط؛ وذلك كالتالي:
1– تقليل الخسائر الإسرائيلية من الضربات الإيرانية: في ظل التوقعات الأمريكية برد إيراني على استهداف تل أبيب للقنصلية الإيرانية في سوريا، شرعت الإدارة الأمريكية في تنسيق الاستعدادات الأمريكية–الإسرائيلية المشتركة للرد على الهجوم الإيراني المحتمل خلال زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط (سنتكوم) الجنرال إريك كوريلا إلى تل أبيب، واتصال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، بنظيره الإسرائيلي يوآف جالانت، في 12 أبريل الجاري، لتأكيد دعم الولايات المتحدة الثابت للدفاع عن إسرائيل في مواجهة التهديدات المتزايدة؛ حيث قال أوستن لجالانت إن تل أبيب يمكن أن تعول على الدعم الأمريكي الكامل للدفاع عنها ضد الهجمات التي هددت بها طهران علناً.
2– إعادة تموضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط: تحسباً للهجوم الإيراني، ولدعم إسرائيل في الدفاع عن نفسها، أعادت الولايات المتحدة تموضع مدمرتين، إحداهما كانت موجودة بالفعل في المنطقة، والأخرى أُعيد توجيهها إلى هناك. وبحسب مسؤولين أمريكيين، فإن واحدة منهما على الأقل تحمل نظام الدفاع الصاروخي “إيجيس”؛ وذلك لإظهار الاستعداد الأمريكي للمساعدة في الدفاع عن تل أبيب ضد الهجوم الإيراني، ولحماية القوات الأمريكية في المنطقة.
وقد نجحت القوات الأمريكية المنتشرة في البحر الأبيض المتوسط، في اعتراض الطائرات من دون طيار والصواريخ الإيرانية قبل أن تصل إلى إسرائيل؛ فقد قال المسؤولون الأمريكيون إن أكثر من ٧٠ طائرة من دون طيار اعترضتها سفن البحرية الأمريكية والطائرات العسكرية، كما أسقطت البحرية الأمريكية ثلاثة صواريخ باليستية على الأقل باستخدام نظام الدفاع الصاروخي “إيجيس”.
3– ضغوط على إسرائيل لعدم الرد على الرد الإيراني: منذ العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة في 7 أكتوبر الماضي والرئيس الأمريكي جو بايدن يعمل على عدم توسيعها إلى حرب إقليمية لا ترغب فيها الولايات المتحدة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 5 نوفمبر القادم؛ ولذلك تضغط الإدارة الأمريكية على إسرائيل لعدم تصعيد ردها على الهجوم الإيراني؛ خوفاً من أن يقود ذلك إلى حرب إقليمية واسعة النطاق بين إسرائيل وإيران ووكلائها المسلحين المنتشرين في العراق وسوريا واليمن ولبنان.
وعقب نجاح إسرائيل في اعتراض 99% من الطائرات من دون طيار والصواريخ التي أطلقتها إيران، ووصول عدد قليل من الصواريخ الباليستية إلى إسرائيل، وفقاً للجيش الإسرائيلي؛ أخبر الرئيس الأمريكي جو بايدن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال اتصال هاتفي في 14 أبريل الجاري، أن ذلك يشكل “فوزاً لإسرائيل”؛ حيث لم يتم ضرب أي شيء “ذي قيمة”. ومن ثم، قد لا يكون من الضروري إجراء المزيد من الهجمات الإسرائيلية الانتقامية ضد إيران.
وقد ذكر موقع “أكسيوس”، في 14 أبريل الجاري، أن الرئيس بايدن أخبر نتنياهو، خلال اتصال في 13 من الشهر نفسه، أن الولايات المتحدة ستُعارِض أي هجوم إسرائيلي مضاد ضد طهران؛ حيث ينتاب الرئيس الأمريكي وكبار مستشاريه القلق من أن يؤدي الرد الإسرائيلي إلى حرب إقليمية ذات عواقب كارثية. ومن هنا، فإن الإدارة الأمريكية تطالب إسرائيل بالتنسيق معها قبل أي رد على الهجمات الإيرانية.
4– إبلاغ إيران بعدم المشاركة في الضربات الإسرائيلية: أبلغت الولايات المتحدة إيران بأنه ليس لها أي دور أو علم مسبق بالضربة التي طالت القنصلية الإيرانية في سوريا. وقد ذكر العديد من المسؤولين الأمريكيين أن إسرائيل لم تبلغ الإدارة الأمريكية قبل الضربة. وتشير تقارير أمريكية إلى أن وزير الدفاع الأمريكي اشتكى إلى نظيره الإسرائيلي من أن استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وضع القوات الأمريكية في الشرق الأوسط في خطر، وكان ينبغي للمسؤولين الأمريكيين أن يعرفوا بها.
وقد هدفت الإدارة الأمريكية من إبلاغ إيران بأنها لم تشارك في الضربة الإسرائيلية، إلى تجنب التصعيد الإقليمي بمواجهات إسرائيلية–إيرانية تنخرط فيها المليشيات الشيعية الموالية لإيران؛ الأمر الذي كان يمكن أن يجر واشنطن إلى حرب لا ترغب فيها الإدارة الأمريكية، التي رفعت شعار إنهاء الحروب الأمريكية اللانهائية في الشرق الأوسط، وهي السياسة التي تجلت في عملية الانسحاب الفوضوي من أفغانستان في ٣١ أغسطس ٢٠٢١ قبل حلول الذكرى العشرين لأحداث سبتمبر الإرهابية.
5–نشاط دبلوماسي لمنع حرب إقليمية واسعة: تحول تركيز الإدارة الأمريكية، بعد النجاح في اعتراض أكثر من 300 صاروخ وطائرة من دون طيار إيرانية، مع أضرار طفيفة لقاعدة عسكرية في جنوب إسرائيل؛ إلى تنسيق رد دبلوماسي مع مجموعة السبع وحلفاء وشركاء الولايات المتحدة؛ لتجنب المزيد من التصعيد العسكري بين طهران وتل أبيب، الذي يمكن أن يتحول إلى حرب إقليمية واسعة النطاق. وبجانب الرسائل الأمريكية العلنية والخاصة إلى إيران التي تحذرها من تصعيد الأزمة، فإن الإدارة الأمريكية طلبت من حلفائها الأوروبيين، وشركائها في المنطقة، الضغط على إيران لمنع التصعيد ضد إسرائيل.
أسباب مختلفة
يكمن وراء التحركات الأمريكية لخفض التصعيد الإسرائيلي–الإيراني الذي قد يقود إلى حرب إقليمية واسعة النطاق تتورط فيها الولايات المتحدة؛ العديد من الأسباب التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1– استنزاف مزيد من الموارد الأمريكية “المحدودة”: تتخوف إدارة الرئيس بايدن من أن الانخراط الأمريكي في مواجهة عسكرية تتورط فيها إسرائيل مع إيران ووكلائها، سوف يستنزف الموارد الأمريكية، التي أضحت محدودة، في صراع عسكري جديد في الشرق الأوسط، وهي الموارد التي تحتاج الولاياتُ المتحدة إلى توجيهها لمعالجة تحديات وتهديدات دولية باتت أكثر أهمية وتأثيراً – في رؤيتها – على القيادة الأمريكية للنظام الدولي، في وقت تراجعت فيه أهمية المنطقة لصالح تزايد الاهتمام الأمريكي بمنطقة الإندو–باسيفيك، والصعود الصيني الذي يُعد التهديد الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، وفقاً لوثائق الإدارة المتعددة خلال العامين الماضيين.
2– اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية: يأتي التصعيد الإيراني–الإسرائيلي في وقت حاسم للرئيس بايدن؛ حيث تتراجع شعبيته بين قاعدته الانتخابية التي لعبت دوراً رئيسياً في فوزه بالانتخابات الرئاسية لعام ٢٠٢٠؛ بسبب الدعم اللامحدود للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد المدنيين في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر الماضي، على نحو قد يؤثر على فرص فوزه بفترة رئاسية ثانية في 5 نوفمبر المقبل. وقد فرض سياق الانتخابات الرئاسية القادمة نفسه بقوة على طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع الضربات الإيرانية ضد إسرائيل، والرد الإسرائيلي المحتمل عليها.
فقد حاول الحزبان الجمهوري والديمقراطي استغلال الهجمات الإيرانية ضد إسرائيل؛ كلٌّ وفق مصالحه؛ فرغم إدانة المشرعين الجمهوريين والديمقراطيين الهجمات الإيرانية، وتأكيدهم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، فإن حلفاء بايدن في الكونجرس أشادوا بقدراته على إدارة التصعيد الإيراني–الإسرائيلي، بما يجنب الشرق الأوسط حرباً إقليمية يمكن أن تتورط فيها الولايات المتحدة، بينما استغلها الجمهوريون لانتقاد الإدارة الأمريكية؛ حيث أشاروا إلى أن تلك الأزمة أظهرت ضعف الرئيس الأمريكي وإدارته تجاه إيران، وأن سياساته شجَّعت النظام الإيراني على تهديد القوات الأمريكية في المنطقة وحلفاء واشنطن الاستراتيجيين، وتهديد الملاحة الدولية بالممرات المائية الاستراتيجية في الشرق الأوسط، بينما دعا آخرون إلى تحرك الولايات المتحدة وشن ضربات انتقامية ضد إيران.
3– القلق من استئناف الهجمات ضد القوات الأمريكية: تتخوف الإدارة الأمريكية من أن التصعيد الإسرائيلي–الإيراني، قد يُعرِّض القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا لهجمات مسلحة مجدداً، بعد نجاح الضربات الأمريكية ضد وكلاء إيران في العراق وسوريا، والتفاهمات الأمريكية–الإيرانية على وقفها، ولا سيما بعد أن أدت إحداها إلى مقتل ثلاثة جنود من الجيش الأمريكي في هجوم بطائرة من دون طيار على القاعدة الأمريكية في الأردن، في 28 يناير الماضي، وهو الهجوم الذي دفع الإدارة الأمريكية إلى شن هجمات عسكرية ضد المليشيات الشيعية في العراق وسوريا.
متغيرات رئيسية
ختاماً، رغم الجهود الأمريكية المتعددة لمنع تحول التصعيد الإيراني–الإسرائيلي إلى حرب إقليمية؛ لتأثيراته المتعددة على المصالح والأمن القومي الأمريكي، وفرص فوز بايدن بفترة رئاسية ثانية في 5 نوفمبر القادم، فإن احتمالات انخراط الولايات المتحدة في حرب ضد إيران ترتبط بثلاثة متغيرات رئيسية: يتمثل أولها في عدم اكتفاء الحكومة اليمينية الإسرائيلية بالنجاح في اعتراض الطائرات من دون طيار والصواريخ التي أطلقتها طهران، وإقدامها على شن ضربات عسكرية ضد مواقع داخل الأراضي الإيرانية، أو استهداف قيادات بارزة في الحرس الثوري الإيراني؛ ما يدفع نحو مزيد من الهجمات في العمق الإسرائيلي، وتحوُّل المواجهة بين طهران وتل أبيب إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.
وينصرف المتغير الثاني إلى عودة استهداف المليشيات المسلحة الموالية لإيران القوات الأمريكية في سوريا أو العراق، أو استهداف مواطنين أمريكيين؛ الأمر الذي سيفرض ضغوطاً على الإدارة الأمريكية خلال العام الانتخابي لشن هجمات مسلحة ضد تلك المليشيات ومناطق تمركزها، ومنصات إطلاق الهجمات ضد الأمريكيين في المنطقة، وحتى لا تظهر ضعيفةً أمام التهديد الإيراني للأمريكيين في الشرق الأوسط. ويرتبط ثالث تلك المتغيرات بتخلي إيران عن سياسة عدم التصعيد العسكري المباشر ضد الولايات المتحدة، وإدارة المنافسة مع واشنطن، وإثبات الاستخبارات الأمريكية تورط النظام الإيراني بصورة علنية في استهداف الأمريكيين والمصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.