لا يبدو بعد أن هناك مؤشرات مؤكدة بالنسبة للنخبة السياسية في العديد من العواصم بما فيها تل أبيب وواشنطن ولندن وباريس، من توقف الأرق والقلق الذي انتاب هذه النخب والقيادات السياسة بعد اتساع النطاق الأفقي والعمودي للتظاهرات التي شهدتها الجامعات الغربية عموماً والأميركية خصوصاً، ولاسيما بعد توسع دائرة بيكار الاحتجاجات المؤيدة للموقف الفلسطيني في أوروبا مع انضمام المزيد من الجامعات في بريطانيا وإيرلندا وغيرها من الدول، لقطار هذه التظاهرات ومسارها.
إذ بات من الواضح والمؤكد أن الاتجاه الانحداري لهذه التظاهرات هو بعيد المنال بالنسبة لمن يمنون أنفسهم بذلك، وها هو يتخذ مساراً متصاعداً في ظل وجود العديد من التطورات والأحداث الآتية:
1- غياب وجود أي أفق سياسي لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والحد من جرائمه المنتهكة لكل المواثيق والمعاهدات الدولية، بل إن إصرار حكومة بنيامين نتنياهو المتمسكة بالخيار العسكري العدواني وتعدد الأعذار المتعلقة باجتياح رفح والعودة لمخيم جباليا في الشمال وخان يونس وووو… إلخ، ليست سوى بالونات إعلامية تتضمن السعي لتحقيق أهداف خاصة ببقاء نتنياهو واليمين المتطرف في الحكم في إسرائيل واستكمال مشروع تهجير أهالي القطاع من هذه الرقعة الجغرافية، وهو ما يفسر تنصل المفاوضين الإسرائيليين وحكومتهم من التوصل لأي اتفاق، إلى جانب عدم رغبة حكومة الاحتلال في قبول أي تصور لمستقبل غزة.
2- سلوك وتصريحات رموز اليمين المتطرف داخل حكومة الكيان والتي أظهرت صورة ما يسمى «إسرائيل الحقيقية» أمام الدول الغربية، سواء من حيث ما قامت به قوات الاحتلال من مجازر ضد البشر والحجر، أم من حيث تفاخرهم ومسارعتهم لمزاوداتهم العنصرية ولاسيما لكل من وزراء الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية يتسلائيل سموتريتش ووزير التراث عميحاي إلياهو وغيرهم، ما جعلهم أشخاصاً غير مرغوبين لدى الرأي العام الغربي.
3- استمرار الدول الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركية بدعم هذا الكيان، على الرغم من التصريحات الإعلامية المنددة لسلوكيات الكيان وتلويحهم بوقف المساعدات، من دون إبداء أي خطوات ملموسة وحازمة.
4- عجز المنظمات الدولية وعلى رأسها مجلس الأمن وباقي أجهزة الأمم المتحدة من القيام باختصاصاتها وواجباتها في حل الأزمات بالطرق والوسائل السلمية، وفي إطار صيانة حقوق الإنسان، وهو ما برز في عجز هذا المجلس من تبني قرار لوقف العدوان، أو باستعادة حقوق الشعب الفلسطيني بما في ذلك تقرير مصيره.
حالة التصدع التي انتشرت داخل الإدارات الغربية، ونخبها الحاكمة، وأجهزتها الأمنية، لم يكن بفعل حصول وانتشار هذه التظاهرات بحد ذاتها كتظاهرات صغيرة أو كبيرة، بل بنتائج وتداعيات وتأثير هذه التظاهرات التي طالت أهم الجامعات العالمية في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا مثل كولومبيا، هارفارد، نيويورك، كورنيل، ووريك، غولدسميث، نيوكاسل، السوربون، أوتريخت، كومبلوتنسي، وغيرها من الجامعات التي تتسم بثقلها ووزنها الدولي في المجالات العلمية والثقافية والمالية والقانونية والسياسية، إلى جانب دورها في تعزيز القيم والمبادئ التي تم تبنيها بعد الحرب العالمية الثانية.
ولتأكيد أهمية ما سبق لا بد من التوقف عند ثلاث نقاط أساسية تتمثل كل منها بعامل ضغط على صانعي القرار في المجتمع الغربي: النقطة الأولى فإن التاريخ السياسي المعاصر لم يذكر أي حادثة أو حراك قادته الفئات الطلابية، إلا وقد انتهى بتحقيق مطالبه، ولعل أبرز الأمثلة على ذلك هو ما حصل من احتجاجات طلابية عام 1968 لوقف الحرب الأميركية على فيتنام، وكذلك الدور الطلابي بتغيير الموقف الأميركي تجاه نظام الفصل العنصري الذي كان سائداً في جنوب أفريقيا، وهذه النقطة لها ثلاث مسارات متكاملة، الأولى أن من يقود هذا الحراك هم الفئة الشابة سواء من الطلاب أم المدرسين، وهؤلاء تختلف نسبتهم من الدولة إلى أخرى داخل الاتحاد الأوروبي والولايات الأميركية، والنسبة هنا تتراوح ما بين 12 إلى 22 بالمئة، الأمر الذي يساهم في تغيير سياسي محتمل مع أي انتخابات برلمانية أو رئاسية قد تشهدها هذه الدول، كما أن تغيير القناعات لدى الفئة الشابة ودفاعها عن أحقية القضية الفلسطينية يعكس من ناحية سقوط الرواية الغربية التي تم تبنيها والترويج لها خلال العقود السابقة، ومن ناحية ثانية عودة الاهتمام بهذه القضية على المستوى الدولي في مسار ثان، في حين تتمثل مقدرات هؤلاء الشباب في اللغات الحية التي يجيدونها واستخدامهم لتقنيات التكنولوجية المعاصرة وتوظيفهم لها مساراً ثالثاً في الزخم المتوقع للتعريف عما يحصل في فلسطين بجميع أرجاء المعمورة.
لذلك فإن المطالب التي تبنتها الحراكات الطلابية في الجامعات الغربية من حيث وقف العدوان الإسرائيلي على القطاع، ووقف التعامل واستثمارات الجامعات الغربية داخل مؤسسات الكيان المختلفة، تشكل أحد أبرز الإرهاصات المقلقة للحكومات الغربية إلى جانب تل أبيب.
النقطة الثانية، كشفت هذه التظاهرات والحراكات الطلابية تآكل المبادئ والأسس التي تبنتها الدول الغربية بعد الحرب العالمية الثانية وخاصة بالنسبة للمجتمعات الأوروبية، بمعنى آخر فإن الضغوط التي مارسها الساسة الغربيون والتحريض الذي شهدته تصريحاتهم وتوجيه الأوامر للقوات الأمنية لتشديد الخناق على المتظاهرين واعتقالهم واتهام المتظاهرين بمعاداة السامية، أظهرت بأن قيم الديمقراطية واحترام الحريات وحقوق الإنسان وغيرها من العبارات البراقة التي تفاخر بها الغرب، لم تكن سوى شعارات، وظفت من الإيديولوجيات والنظريات الغربية لتوسيع نفوذها، أو لتبرير تدخلها في الشؤون الداخلية للدول، ولعل المقارنة في التعامل والموقف الغربي بين ما يحدث في أوكرانيا وفلسطين خير دليل على ذلك.
بينما تتمثل النقطة الثالثة في خشية الحكومات الغربية ولاسيما الأوروبية منها من انضمام باقي ما يعرف في علم السياسي بـ«جماعات الضغط» الأخرى للحراك الطلابي، أي هناك خشية فعلية من الحكومات الغربية أن تتبنى النقابات في أوروبا مثل نقابة العمال مطالب الحراكات الطلابية، وهو ما يعني عدم قدرة هذه الحكومات على فرض سيطرتها وقدرتها على التعامل مع هذه الاحتجاجات، لذلك تسارع بعض الجامعات مرغمة للتفاوض مع المحتجين الطلبة لكسب الوقت أو محاولة تفريغ مطالبهم من مضامينها، أو بهدف منع انفجار هذه الظاهرة الطلابية.
اتهام حكومة الكيان وبعض الحكومات الغربية للمتظاهرين بمعاداة السامية، وسلب حرية باقي الطلبة، وإحداث اضطراب في الأماكن العامة وغيرها من التهم، هي ليست سوى انعكاس لمدى أهمية هذه الاحتجاجات من جانب، ومن جانب آخر خطورتها على مستقبل هذه الحكومات أو أنظمتها السياسية القائمة التي تعرت بصورة كاملة أمام شعوبها، رغم أن الكثير من هذه الاتهامات ولاسيما معاداة السامية هي غير حقيقية، باعتبار أن المشاركين في هذه الاحتجاجات ليسوا فلسطينيين أو عرباً أو مسلمين فقط، بل هناك طلاب وأساتذة من اتباع الديانة اليهودية وغيرهم من قوميات وجنسيات وإيديولوجيات مختلفة شاركوا في هذه الاحتجاجات بل ساهموا في تنظيمها والدعوة لها، فهل تتمكن هذه الاحتجاجات من تحقيق ما عجز عنه المجتمع الدولي ومؤسساته المتصدعة؟
منصة إعلامية إلكترونية تنقل الحدث الإخباري بشكلٍ يومي تعني بالشؤون المحلية والعربية والعالمية تشمل مواضيعها كافة المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية إضافة إلى أخبار المنوعات وآخر تحديثات التكنولوجيا