إعلان البنتاغون في الثامن عشر من الشهر الماضي الانتصار على داعش في سورية في أعقاب إعلان ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية – قسد» قبل يومين من ذلك التاريخ عن سيطرتها على ما قالت إنه الجيب الأخير للتنظيم في قرية الباغوز الفوقاني على الضفة الشرقية لنهر الفرات مثل تراجعاً لوزارة الدفاع الأميركية أمام البيت الأبيض الذي يبدي رغبة واضحة في الانسحاب من سورية على الرغم من التعديلات التي أجراها هذا الأخير فيما بعد عبر الإعلان عن الإبقاء على 200 جندي في الشمال لم تلبث أن أضيف إليهم 200 آخرين في التنف بعد48 ساعة من الإعلان الأول، على حين مثل إرسال الرئيس دونالد ترامب مؤخراً لما قيل إنه خطة سرية تتضمن خياراته السورية إلى الكونغرس تراجعاً له أمام البنتاغون اللاهث نحو الإبقاء على مخلب في الجسد السوري، هذا التراجع الأخير يمكن تلمسه فيما أعلنته وكالة «نوفوستي» الروسية في 27 شباط المنصرم من أن المخصصات المالية التي صرفت لإعداد تلك الخطة كانت مقدمة من البنتاغون الذي ما كان له أن يفعل لولا رجحان العامل العسكري فيها، ولولا احتواؤها على ما يرضي غرائزه ومراميه.
هذا النوسان الأميركي ما بين قطبي السياسة والعسكر يرصد حالاً من الفوضى داخل الإدارة الأميركية من المقدر له أن يستمر إلى ما بعد نيسان المقبل الموعد المقرر الذي سيستقر عنده شكل الوجود الأميركي في سورية، وفي حينها ستحدد جاذبية أي من القطبين هي الأقوى عندما سيقف الرقاص مشيراً إليها، وهذي الحالة كان قد أشار إليها السفير الأميركي الأخير في دمشق روبرت فورد بوضوح بمقال له نشرته الشرق الأوسط في السادس والعشرين من شباط الماضي.
قوة القطبية واستقرار الرقاص سوف يحددان تبعاً لعوامل عدة، بعضها داخلي من دون أن يعني ذلك أن اعترافات محامي ترامب السابق مايكل كوهين الأخيرة، على حدتها، سوف تجعل من يد الأول مشلولة وإن كانت سوف تضعفها إلى حين، وبعضها الآخر خارجي مما يمكن لمحوره أن يلحظ في الجدل الدائر بين كل من واشنطن وأنقرة، والبادئ بخلاف واسع كان قد رصده بيان البنتاغون الصادر في أعقاب لقاء وزيري الدفاع الأميركي (بالوكالة) ونظيره التركي في 23 شباط، والمار بهواتف تفضح انترفوناتها المفتوحة ما بين الرئيسين الأميركي والتركي الكثير من التباعد، وغير المنتهي في جولات أنقرة الأخيرة بين الطرفين التي استبقها وزير الخارجية التركي بتصريح أكد فيه أن موضوع شراء صواريخ «إس 400» الروسية قد انتهى ولا تراجع فيه، وما تسرب عن تلك المفاوضات قليل إلا أنه بالغ الدلالة، فقد قيل إن الأميركيين قد أبلغوا الأتراك عن نيتهم الإبقاء على 200 جندي في الشمال كفاصل حامٍ لوحدات الحماية الكردية في مواجهة التهديدات التركية لأن واشنطن لا تزال ترى فيها ضماناً لمنع عودة داعش من جديد، على حين أن المرامي الأميركية في هذا السياق تصل إلى حدود أن يؤدي ذلك الفعل إلى ضغوط قادرة على دفع دمشق، وكذا أنقرة، نحو القبول بإعطاء حكم ذاتي للأكراد وفق طبعة «روج أفا» آذار 2016، وكذلك، وهنا لا نزال في ما تسرب، الإبقاء على 200 جندي آخرين في قاعدة التنف تكون مهمتهم قطع طريق طهران بيروت في إطار دعم المشروع الإسرائيلي الحثيث لمواجهة ما تسميه تل أبيب بالتمدد الإيراني نحوها، وهو الدعم الذي انضمت إليه مؤخراً وزارة الخارجية البريطانية عبر قرارها الذي سيقدم إلى مجلس العموم البريطاني لإقراره باعتبار حزب اللـه تنظيماً إرهابياً بشقيه السياسي والعسكري بعد أن كانت لندن قد اعتبرت هذا الأخير كذلك منذ العام 2008، وعلى الرغم من أن القرار البريطاني يندرج أساساً في إطار المواجهة مع طهران، إلا أن فيه ملمحاً آخر يستشرف توازنات القوى في المنطقة لمرحلة ما بعد الحرب السورية، وهو يلحظ مبكراً خروجاً لحزب اللـه من هذي الأخيرة قوة إقليمية قادرة على الخروج من قمقم الـ1701 لعام 2006.
شهد الأسبوع الماضي حدثين مهمين ولسوف يرسمان ملامح المسارات التي ستأخذها الأزمة السورية بشقيها السياسي والعسكري للمرحلة المقبلة، أولاهما القمة السورية الإيرانية 25 شباط، وثانيهما لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بالرئيس الروسي في موسكو بالتزامن معها.
الحدثان وفق معطيات عدة عسكريان بكل المقاييس، فالأول فرضته تلاقيات دمشق طهران عند مفترق طرق بدا واضحاً أنه أخذ بالتبلور في تقارب روسي تركي فيما يخص المنطقة الآمنة في الشمال السوري التي ما انفكت أنقرة تغز خطاها نحوها منذ سنوات، فيما يمكن استشراف هذا الموقف الروسي الأخير، التكتيكي أكثر منه إستراتيجي، انطلاقاً من أن موسكو تريد رفع درجة السخونة على طريق طهران أنقرة على الساحة السورية تحجيماً لدور الاثنين فيها، ومن الممكن الاستناد في ترجيح ذلك على الموقف الروسي الداعم لاستهداف الجيش السوري لمواقع «هيئة تحرير الشام« و«حراس الدين» في خان شيخون وسراقب الحاصل مؤخراً ما يمكن اعتباره جنيناً لحراك عسكري قد يتطور إلى عملية كبرى تهدف إلى تحرير إدلب وإعادتها إلى الحاضنة السورية، فيما يمكن أن تصل المرامي الروسية هنا إلى محاولة كسر التعنت التركي في ملف شرق الفرات والتفرد فيه، أما الثاني، أي الحدث الثاني، فتسعى تل أبيب من خلاله إلى زيادة ضغوطها على دمشق لدفعها نحو الارتماء في الحضن الروسي في ظل رواية إسرائيلية تبرز تجاوزاً لأزمة إسقاط «اليوشن» الروسية في سماء اللاذقية أيلول الماضي، هذه المحاولة الإسرائيلية تهدف إلى تحقيق مأربين أساسيين، أولاهما خلق شرخ على مستوى العلاقة ما بين طهران ودمشق لم تزل المحاولات جارية فيه منذ عقدين على الأقل، أما ثانيهما فهو احتياطي في حال أخفق الأول وهو يرمي إلى رسم هوامش جديدة ما بين أضلع الثالوث الروسي الإيراني السوري، وفي هذا السياق فإن الرسالة الأهم التي وجهتها زيارة الرئيس الأسد إلى طهران كانت تريد القول إن دمشق قادرة على الدوام وفي أحلك اللحظات على ابتناء علاقات متوازنة مع حليفين أثبتا صدقية كبرى في تعاطيهما المسؤول تجاه الأزمة السورية المستمرة منذ ثماني سنوات.
يقول روبرت فورد في مقاله الأخير السابق الذكر في الشرق الأوسط: إن الرئيس «الأسد يتسم بالصبر على حين يفتقد إليه ترامب» والقول صحيح إلا أنه ناقص في رسم حدود إستراتيجيات الرئيس الأسد التي يوجب الإنصاف ذكر ضلعيها الباقيين، وأولاهما هو الصمود الفولاذي الذي كان على الدوام مدعاة لتفكك معسكر الخصوم ليبقى هو الثابت الوحيد فيما الكل متحول من على جانبيه، وثانيهما براعة الانتظار التي تقوم على منهجية مفادها وجوب أن لا تهتز الأعصاب على وقع أي أخبار سيئة قد ترد، وهي سترد حتماً، من على الجبهات الحليفة، فهناك بالتأكيد أخبار هي أكثر سوءاً على جبهات الخصوم.
تسعى اليوم كل من دمشق وموسكو إلى إفقاد الوجودين الأميركي والأوروبي مشروعيته في الشمال والشرق السوريين عبر طي ملف مخيم الركبان في منطقة التنف، على حين يسعى ذانك الوجودان إلى عرقلة تلك المحاولات، إلا أن ذلك لا يعني انعدام الخيارات أو توفقها عند هذي الأخيرة، ولربما تتوافر هناك العديد من الخيارات البديلة وفي الذروة منها إحياء خيار «دير حافر» الذي اجتمع فيه ممثلو 70 عشيرة سورية في 3 حزيران الماضي على مسافة 50 كم إلى الشرق من حلب تحت شعار عريض هو إطلاق المقاومة المشروعة ضد القوات الأجنبية على كامل الأراضي السورية، على حين اعتبر البيان في إشارة يجب ألا يخطئ قراءتها ممن يهمهم الأمر أن «المتعاملين» مع تلك القوات هم في حكمها بالتأكيد ويسري عليهم ما يسري عليها.
تفعيل خيار دير حافر هو أحد خيارات دمشق، صحيح أن التسوية السورية خاضعة لتوازنات إقليمية ودولية إلا أنها لن تستوي مهما بلغت الأثمان إلا بفهم دقيق لتفاصيل دقيقة تقوم عليها الديناميكية السورية، ومن المشكوك فيه إلى الآن أن الأغلبية الكبرى من اللاعبين قادرة على الإلمام بها أو تفهمها، على حين من المؤكد أن الخروج الغربي من الشمال والشرق السوريين عبر خيار دير حافر سيعني دخول العالم مرحلة ما بعد الغرب.
عبد المنعم علي عيسى – الوطن السورية
Discussion about this post