في احتفال فرنسا في أكتوبر الماضي بالذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى كانت لافتة دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى إنشاء جيش أوروبي بحضور قادة دوليين كبار ومجرمي حرب أياديهم ملطخة بدماء الأبرياء في هذا العالم، وخصوصًا الأبرياء في منطقتنا وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني والشعب العراقي والشعب الليبي والشعب السوري واليمني.. إلخ، في حين أن هذه الدعوة أعقبها انطلاق فعاليات منتدى السلام بباريس والذي جاء بدعوة من الرئيس ماكرون شخصيًّا، وبمشاركة أكثر من 60 من رؤساء دول وحكومات العالم.
واللافت إزاء هاتين الدعوتين وبمحاولة الربط بينهما وبين ما سبقهما من تطورات سياسية هو أنهما جاءتا إثر حدثين مهمين؛ أولهما داخل القارة العجوز وتحديدًا في ألمانيا بخسارة المستشارة أنجيلا ميركل الانتخابات الأخيرة وإعلانها عزمها التقاعد والتفرغ لحياتها غير السياسية، ثم اليقين بالقرار البريطاني النهائي بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وثانيهما خارج أوروبا وتحديدًا في الولايات المتحدة بخسارة الرئيس دونالد ترامب انتخابات التجديد النصفي في الكونجرس والهزيمة التي مني بها حزبه الجمهوري في مجلس النواب، وما يفهم من سياق الدعوتين بالنظر إلى هذه طبيعة التطورات، هو أن ماكرون يحاول تقديم نفسه على أنه الزعيم القادم من تاريخ فرنسا ـ نابليون بونابرت، وفرنسا شارل ديجول، والقادر على قيادة أوروبا، والانتقال بالقارة إلى وضع سياسي جديد تتخلى فيه عن التبعية المطلقة للولايات المتحدة، وتتمتع بالسيادة واستقلال القرار، وتمتلك قوة الموقف والتأثير.
وبصرف النظر عن ما بدا من تناقض بين الدعوتين (إنشاء جيش أوروبي موحد ومستقل، وأهمية إعلاء السلام وأخذ العبرة والعظة من الحرب العالمية الأولى) في الوقت الذي تشارك فيه القوات الفرنسية في عمليات عسكرية في إفريقيا وآسيا خارج الإطار القانوني والشرعي، إلا أن من المؤكد أن السلوك الفرنسي لماكرون وتغير النبرة الطوعية، كان متلقُّوه يرون فيه خروجًا على بيت الطاعة، وعن أوامر السيد، وتحديدًا الولايات المتحدة وحليفها كيان الاحتلال الإسرائيلي.
لذلك ـ في تقديري ـ كان لا بد من التدخل وتوجيه قرصة بسيطة تعيد الأمور إلى نصابها، وإعادة فرنسا ـ ماكرون إلى بيت الطاعة الأميركي، وهو ما بدا في حدثين أساءا إلى صورة فرنسا وإلى اقتصادها: الأول: ضرب التحالف بين نيسان وميتسوبيشي اليابانيتين ورينو الفرنسية بتفجير فضيحة مالية لمهندس التحالف كارلوس غصن، البرازيلي الجنسية اللبناني الأصل، ويعود الفضل إلى هذه الشخصية الاقتصادية في إيقاف تدهور شركة رينو، لدرجة أنه بات يعرف في فرنسا بلقب القاتل المالي وذلك بعد فرضه تخفيضات مالية ضخمة لإنقاذ شركة رينو من وضعها المالي الذي كان مترديًا. الثاني: تفجر الاحتجاجات داخل فرنسا ضد ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة أسعار الوقود، حيث تقود هذه الاحتجاجات جماعة ما تعرف بـ”السترات الصفراء”، وقد احتدمت المواجهات يوم السبت الماضي في العاصمة الفرنسية باريس بين قوات الأمن والمحتجين ذوي “السترات الصفراء”.
الشاهد في ذلك، ومع الإيمان بحق الشعوب في المطالبة بحقوقها، والتعبير عن رأيها بالأساليب المنضبطة والمتحضرة، هو أن الشوارع لا تتحرك ضد الحكومات وقراراتها من تلقاء نفسها، وإنما هناك من يحركها ويغذيها بالأفكار المدسوسة والهدامة، ويدعمها بالمال ليخرج المحتجون عن السلوك المتحضر في التعبير وإيصال المطالب، فيمارسوا أعمال العنف والتخريب على النحو الذي بدا في الضواحي الباريسية، حيث تهدد المواجهات بالتمدد والتطور، ويزداد معها العبء لدى قوات الأمن والشرطة، وترتفع معها أيضًا أعداد الضحايا.
فرنسا كانت إحدى الدول التي رفعت عقيرتها، وشاركت في الدس والتحريض ضد سوريا، وأحد الأطراف في المعسكر المعادي والمتآمر على سوريا، وأخذت تتعكز في تدخلها في الشأن الداخلي السوري بدعم مطالب الشعب السوري، وكالت أقبح الصفات والاتهامات وأقذر الأوصاف للحكومة السورية والجيش العربي السوري، ولشخص الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت إحدى الدول المطالبة برحيله من السلطة، وأن يترك للشعب السوري اختيار قائد غيره، وكانت إحدى الدول التي جلبت أسطولها الحربي إلى البحر الأبيض المتوسط استعدادًا لشن عملية عسكرية على سوريا في فترة ولاية الرئيس الأميركي باراك أوباما.
ومثلما تقود جماعة “السترات الصفراء” عمليات الاحتجاج والتخريب والعنف، تقود جماعة ما يسمى بـ”الخوذ البيضاء” في سوريا عمليات العنف والقتل والإرهاب والتحريض، والفبركة والتشويش، وفبركة المسرحيات التمثيلية ـ بالتخصص ـ لتبرير أي عدوان ينوي معشر المتآمرين شنه على سوريا، وفي ضوء هذه المسرحيات الهابطة لهذه العصابة الإجرامية الإرهابية شاركت فرنسا في عدد من الهجمات العدوانية على سوريا. وإزاء هاتين الجماعتين شتان بين الموقف السوري والموقف الفرنسي، فدمشق لم تصطد في الماء العكر، وتتدخل في الشأن الداخلي الفرنسي وتعمل على تأجيج حركة التمرد والفوضى، بحجة دعمها مطالب المحتجين، على العكس من الموقف الفرنسي الذي لا يزال يستمرئ تدخله في الشأن الداخلي السوري، ويعلن استعداده دون مواربة وأي تورع عن المشاركة في أي عمل عسكري عدواني على سوريا. والمؤسف أن السلطات الفرنسية لم تعِ بعد أن من الوارد ثمة من أراد أن يقرص أذن فرنسا التي أرادت أن تأخذ حجمًا أكبر من حجم السيد الأميركي، ومن الخطأ أن ترى في الحالة العبثية للتعبير عن المطالب مجرد غاضب سرعان يستكين لإرادة الحكومة وسيطرتها. وإذا كانت الحكومة الفرنسية والقيادة الفرنسية تعاني اليوم من حراك شعبي، وسبب لها صداعًا مزمنًا، ودمر وعطل المصالح على مدى حوالي أسبوعين، فما بال سوريا التي تتكالب عليها ما يقارب من ثمانين دولة، ويجلب إليها من أصقاع العالم الإرهابيون والتكفيريون والقتلة واللصوص طوال ثماني سنوات، ولا يزال الدعم للإرهاب والتدمير الذي يستهدف كل سوريا مستمرًّا؟.
والمثير في الأمر هو أن الحكومة الفرنسية حاولت نسبة التمرد إلى “الجبهة الوطنية” اليمينية المتطرفة وإلى تنظيم “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي لتخفيف وقع الصدمة، وإقناع المؤيدين لحركة التمرد بالعدول عن ذلك، بينما أخذت شعبية رئيس الجمهورية في التراجع، إلا أن ذلك لم يخدم محاولتها السيطرة على الأوضاع وتهدئة الخواطر.
على أن الأهم ما في كل ذلك هو أن تنظر فرنسا ـ ماكرون إلى الأحداث بمنظارها الموضوعي والعاقل، خصوصًا وهي اليوم تمر بتجربة ثورية جديدة، وأن تؤمن بأن اللاعبين والعابثين كثر، وأن مستقبل استقرار الدول وسيادتها واستقلالها ورخاء شعوبها في التنمية والسلام والتعايش وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتبادل المنافع معها على قاعدة الاحترام المتبادل، وبالتالي أن تعيد النظر في جنوحها مع الصهيو ـ أميركي، فهما لا يهمهما سوى مصلحتهما أولًا وثانيًا وثالثًا وأخيرًا، ولا يريان أوروبا إلا مطية لتحقيق مآربهما، وتنفيذ مشروعاتهما وعلى حساب القارة العجوز، فعلى سبيل المثال، ماذا استفادت أوروبا من استعدائها جيرانها كروسيا الاتحادية، والرضوخ للإملاءات الأميركية، في حين أن السوق الروسية ضخمة جدًّا لمنتجات الأيادي الأوروبية الكادحة؟ وكذلك الحال مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية ومع غيرهما من دول العالم التي يريد البلطجيون ممارسة بلطجتهم عليها.
Discussion about this post