مشهَدانِ على درجةٍ عاليةٍ منَ التناقض، في الأول يجلُس الرئيس بشار الأسد مترئِّساً اجتماعَ الحكومةِ الأول بعد التعديلِ الوزاري الأخير، ليتكلمَ بلسانِ كلِّ مواطنٍ سوري أعيتهُ الوعود الحكومية في تحسنِ الأوضاع المعيشية ومحاربةِ الفساد، أراد الرئيس بشار الأسد أن يبدوَ المواطن السوري هو من يترأسَ اجتماع الحكومة، وليسَ رأسَ الهرم في السلطةِ التنفيذيةِ حسب الدستور السوري، وبدا وكأنهُ يقدِّم جردةَ حسابٍ لكلِّ فشلٍ أدى لتردي الأوضاع لدرجةٍ بات فيها جزءٌ لا يُستهانُ بهِ من هذا الشعب يتساءل: هل ضاعت التضحيات؟
كلام الرئيس الأسد في مداخلتهِ خلال الاجتماع وحديثه الموزون عن آلياتِ مكافحة الفساد التي يجب أن تتقدم على فكرةِ «محاسبة الفاسدين»، يفعِّل الاتجاه الذي يقول إن الحرب على الفساد يجب أن تكونَ في إطارٍ مشابهٍ لتوقع حدوث الكوارث، وبمعنى آخر، ليست أولويتنا الآن أن نتعاطى قانونياً وقضائياً مع نواتج الفساد والفاسدين، الأولوية يجب أن تكون بالتعاطي مع الآليات التي تمنع بالحد الأدنى حدوث الفساد أو ما يمكننا تسميته إغلاق منافذ الفساد، ولعلَّ أهم ما يقودنا لذلك هو تفعيل أتمتة الوثائق الرسمية والتقليل من تدخل العنصر البشري في تحديدِ الحقوق من عدمِها في المعاملات الرسمية.
أما ما طرحهُ من خطةِ عملٍ مستقبليةٍ للنهوضِ بالواقع الإداري إن كان في المنهج أو الأدوات التي تنظِّمها التشريعات، فقد تبدو على المستوى الداخلي كمن وضعَ الكرةَ بملعبِ «أصحاب المعالي»، تحديداً عندما ذكَّرهم بأنهُ بدأ بنفسهِ عندما ألغى الكثيرَ من الصلاحيات الممنوحة لهُ وفق القانون لمنح الاستثناءات، وبمعنى آخر، لا مجال لتبريرِ الفشل بعد اليوم ولا مجالَ لاختلاق أعذارٍ مكررة كالإرهاب والحصار الاقتصادي، والأهم إنه لا مجالَ بعد اليوم لإعادةِ مصطلحِ المحسوبية كجسرِ عبورٍ لأصحاب المطالب.
أما خارجياً فتبدو ثقةُ الرئيس الأسد والهدوء الذي تحدث بهما، وإلمامهِ حتى بأدقِّ التفاصيل والأرقام، أشبهَ بمنتصرٍ يرسمُ ملامح المستقبل، وعندما نتحدث عن ملامحِ المستقبل فهو الأمر الذي يُقلق من تورط بالحرب على سورية، وهل هناكَ من قلقٍ سيصيبهم أكبرَ من خروج الفينيق السوري من تحت رماد الحرب؟
في المشهدِ الثاني، وبعد ساعاتٍ قليلةٍ من بثِّ صور الاجتماع الذي عقدهُ الرئيس الأسد مع الحكومةِ الجديدة، فإن رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو اجتمع بعددٍ من الضباط المقربين له في قيادةِ الأركان واتخذَ قراراً بتوجيهِ ضرباتٍ صاروخيةٍ لمراكزَ على أطرافِ دمشق مساءَ اليومِ ذاته. نتنياهو الذي اعتاد على هكذا أسلوبٍ في اتخاذ القرارات المتعلقة بتوجيهِ ضرباتٍ في عمق الأراضي السورية مهمشاً لأبعدِ حد ما يسمى مجلس الوزراء المصغر لمسائل الأمن القومي أو الكابينت الأمني السياسي بذريعة الحساسية والسرعة المطلوبة باتخاذ القرار، باتَ يحصد ثمن هذا التهميش وسط ارتفاع الأصوات الناقمة على الأسلوب المنفرد الذي يتعاطى فيهِ بنيامين نتنياهو، وهو أسلوبٌ ليس بجديدٍ بل يعود للعام 2009 عندما تحدثت تقارير قضائية عن تعمد نتنياهو إخفاءَ معلوماٍت تتعلق بخطورة الأنفاق القادمة من غزة. اليوم الخطر لا يقتصر فقط على أنفاق غزة، ماذا عن المعلومات المتعلقة بأجهزة استطلاع «حزب اللـه» القادرة على تصوير نتنياهو حتى في غرفةِ نومه، وماذا عن الصواريخ السورية التي تقضّ مضاجع كل المنادين بشعار حدود إسرائيل من الفراتِ إلى النيل؟
الهجوم الإسرائيلي فشلَ فشلاً ذريعاً رغم أنهُ يمكننا اعتبارهُ الأعنف، لكن ما زاد الفشلَ فشلاً أن الإسرائيلي أدركَ أن السوريين ردّوه بمنظومات الدفاع الجوي المعتادة، أي إن كابوس «إس 300» لم يبدِّل بالنسبةِ للسوريين أيَ شيءٍ في مفهومِ طريقةِ الرد، نتنياهو فشلَ حتى بإمكانيةِ فك طلاسم النقاط التي من الممكن أن تكون مقراً للبطاريات الحديثة، هذه المعطيات تأخذ نتنياهو للاحتمال الأسوأ: ماذا يجهِّز السوريون؟
بواقعيةٍ مطلقة فإن نتنياهو بدا وكأنهُ بحاجةٍ ماسة لهكذا هجوم، القضية ليست كما يختصِرها التبسيط المبني على فرضية أن ما جرى استمزاجاً لردةِ فعل دمشق وإمكانيةَ استخدامها لبطاريات الصواريخ الجديدة «إس 300» مما يتيح كشف مكانها، وهي كذلك ليست تشويشاً على ظهور الرئيس الأسد بهذه الثقة، القضية الأخطر هي حال التخبط الذي يعيشهُ بنيامين نتنياهو ومعه كامل الكيان المسخ الذي يحكمه تخبطٌ يجعلنا نسأل: أين من كانوا يتحدثون طوال ثماني سنواتٍ خلت من الحرب على سورية بأن الكيان الصهيوني بات مرتاحاً أكثر من السابق، والأهم من ذلك بين الهدوء هنا والتخبط هناك، من الذي كانَ يعيش حالة الحرب، هل الدولة السورية أم كيان القتل والإجرام؟
منذُ فشلِ الهجوم الأخير على غزة وسقوطٍ جزئي لحكومة نتنياهو مع ظهورِ علامات الخوف الواضحة لديهِ من اللجوء لخيار الانتخابات المبكرة، كان من الواضح أنه يريد الهروب إلى الأمام، لكنه لم يكَد يستيقظ من كل هذه الصدمات حتى جاءتهُ صدمةَ إلغاءِ اللقاء الذي كان مقرراً بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين على هامشِ قمةِ العشرين في بيونس آيرس.
ربما كان نتنياهو يعوّل على هذا اللقاء لفكِّ الجُمود الحاصِل في العلاقةِ مع روسيا منذ حادثةِ إسقاط الطائرة الروسية فوق السواحل السورية، وما يعنيه الدور الروسي كحليفٍ استراتيجي للسوريين، اليوم تبدو جميع الطرق مسدودة أمام نتنياهو، حتى ما قلناه في الأسبوع الماضي بأن الثمنَ الذي سيدفعه ولي عهد آل سعود محمد بن سلمان للحفاظ على رأسهِ هو العلاقة العلنية مع الكيان الصهيوني وصولاً لتصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن، هو أمرٌ سيفيد الطغمتين الحاكمتين في كلا الكيانين لكنهُ لن يبدلَ في واقعِ الأمر شيئاً على مستوى الصراع مع الكيان الصهيوني، فالإسرائيلي لا يرى الانتصار من خلال استمالة الانبطاحيين العرب واستمالة الصحف لوسائل الإعلام الناطقة بلسانهم، وهو لا يراه من خلالِ تصفية إعلامية للقضية الفلسطينية، ولا حتى إذا رفرف العلم الإسرائيلي في عواصم كل الدول العربية بدون استثناء، الانتصار الإسرائيلي مرتبط فقط بسقوط دمشق، فماذا ينتظرنا؟
مما لاشك فيه أن «علمَ النفس» أعارَ الأحلام الكثير من الأهمية حتى وصل الحد بفرويد للقول بأن جوهر الحلم هو تلبية الرغبات اللاعقلانية تلبية خيالية، لكن ما جرى مع نتنياهو خلال السنوات الثماني الماضية من الحرب على سورية هو أسوأ من الرغبة بالنوم لضمانِ استمرار الحلم، ما يحدث مع نتنياهو هو تجسيدٌ للمثل الشعبي السوري الذي يعبِّر عن اقترابِ الوصول للحلم بـ«وصلت اللقمة للتم»؛ هو عاش هذا الحال عندما بدأت الأحداث في سورية، وعندما سيطر كل من تنظيمي داعش وجبهة النصرة الإرهابيين ومن يحالفهما، على حوالي نصف مساحة سورية، هو عاش ما هو أبعدَ من ذلك عند حدوث هجوم الأركان في قلب دمشق وتفجير الأمن القومي واستشهاد عدد من الشخصيات الرفيعة التي لا يمكن لدولةٍ في العالم أن تخسرهم دفعة واحدة دون أن تنهار أمنياً، والنتيجة بكل بساطة بعد كل ما جرى لا دمشق سقطت ولا المقاومة كـ«فكر» رحلت، ليبقى له كجائزةِ ترضية علاقة حميمية مع محمد بن سلمان أو تهديداتٍ ووعودٍ أميركية بأنهم لن يرحلوا عن سورية حتى نغير سلوكنا، وعندما يتحدثون عن تغيير السلوك فالمقصود فعلياً هو النظرة تجاه الكيان الصهيوني لا أكثر ولا أقل، وإذا كانت النظرة تجاه هذا العدو لن تتغير، ودمشق لن تسقط حتى يرث الله الأرض ومن عليها فإن ما تبقى هو أمر رحيلكم ورحيلهم.
باختصار إنه الشرق البائس الذي تتداخل فيهِ المعارك، أنت قد تهزم عدوك بظهورك مبتسماً، فما بالك وأنت تظهر واثقاً وتخطط لسنواتٍ قادمة! إننا ندرك تماماً أن الأفعى التي تتعرض لضربةٍ تراها تتلوى وتضيع الاتجاه وندرك اليوم أن نتنياهو مثلها تائه وإن كان يظن أن اللجوء لخيار الحرب أمرٌ يسهِّل عليهِ الهروب للأمام فعليه أن يتذكر ببساطة أن هناك من ينتظر هكذا حماقة، فما بالنا عندما ترتبط الحماقة بالجُبن، وهل من جبانٍ أكثر من الخائف من صندوق اقتراع!
فراس عزيز ديب – الوطن السورية
Discussion about this post